العدد 5552
الأربعاء 27 ديسمبر 2023
banner
من روائع ترجماته
الأربعاء 27 ديسمبر 2023


تناولنا آنفاً الدور الذي لعبه طه حسين في حقل الترجمة، سواءً فيما يتعلق بإشكالياتها وشروطها العلميةوالإبداعية، أو فيما يتعلق بما قدّمه من إسهامات مهمة في تنشيط حركة الترجمه في مصر والعالم العربي، كما نوهنا أيضاً بنماذج من ترجماته، مثل ترجمته للمآسي الأغريقية الثلاث:"أوديب ملكاً" و "أوديب في كولونا" و " أوديب". والحال ثمة نصوص أدبية أخرى متفرقة ترجمها العميد إلى العربية. ومن روائع النصوص المترجمة التي تتميز بالعذوبة والإمتاع نعرض لكم تالياً على سبيل المثال ثلاث قطع شعرية قصيرة قام العميد بترجمتها من الفرنسية إلى العربية، الأولى بعنوان " "خلوة النفس" للشاعر الفرنسي بودلير، والثانية للشاعر نفسه'  وهي بعنوان "النافورة"، أما الثالثة والتي بعنوان " العيون" فهي للشاعر سولي بريدوم . 

خلوة النفس! 
شيئاً من الهدوء والدعة أيها الألم! 
لقد كنت تبغي المساء، فها هو ذا يهبط، فانظر إليه! 
هذا جو مظلم يغمر المدينة، يحمل الطمأنينة إلى قومٍ والهمَّ إلى آخرين 
بينما أوشاب الناس يجنون الندم من من اللهو الدنيء، يدفعهم إليه سوط اللذة، هذا الجلاّد الذي لا رحمة له، أعطاني أيها الألم لديك وتعال هنا بعيداً منهم !
انظر إلى السنين الخالية مطلة في أثواب بالية من طنف السماء! 
وانظر إلى الأسف المبتسم تنشق عنه أعماق الماء! وإلى الشمس المحاضرة تنام تحت قوس من أقواس هذا الحبور، واسمع أيها الألم العزيز لليل الحلو يمشي وكأنه كفن طويل طويل ينسحب في الشرق! 

النافورة
في عينيك الجميلتين سقم أيتها العاشقة المسكينة! 
دعيهما ذلك زمناً لا تفتحيهما ... دعيهما في هذه الهيئة الفاترة كما فاجأتهما اللذة! 
هذه النافورة في الفناء لها أزيز لاينقطع في الليل ولا في النهار، يستبقي في هدوء هذا الذهول الذي غمرني به الحب منذ الليلة!
هذه الباقة التي تتفتح في زهر لا يحصى، والتي يزينها القمر المبتهج بألوانه، تتساقط كأنها مطر من دموع ثقال ! 
كذلك نفسك التي يحرقها برق اللذة الملتهب، تصعد سريعة جريئة نحو السماوات الواسعة المشرقة، ثم ترتد وقد أحالها الضنى موجة من الفتور الحزين تنحدر من طريق خفية إلى أعماق قلبي! 
هذه الباقة ...من دموع ثقال! 
إيه أيتها التي يخلع الليل عليها هذا الجمال، أحبب لي بأن أسمع- مائلا نحو ثدييك- هذه الشكاة المتصلة التي تنوح نحو في الحوضِ
أيها القمر، أيها الماء المصطفق، أيتها الليلة المباركة، أيها الشجر يهتز في خفة، إنما اكتئباكن النقي مرآة ما أجد من حب!
هذه الباقة من دموع ثقال!

العيون! 
زرق أو سود، كلهن محبوبات، وكلهن حسان! عيون لا تحصى رأينا الفجر، قد انطوت عليهن أعماق القبور والشمس ماتزال تشرق! 
ليال أودع من النهار أبهجن  عيوناً لا تحصى، وهذه النجوم ما تزال تلمع، وقد ملئت الظلمة تلك العيون !
لهفي، أتراها فقدت لحظها ... ؟! كلا كلا، ليس إلى هذا سبيل، إنما تحولت إلى بعض الوجوه، نحو سبيل مايسمونه الغيب! 
وكما أن النجوم تفارقنا حين تنحدر، ولكنها، تظل في السماء، فللحدق غروبها، ولكن ليس حقاً أنها تموت! 
زرق أو سود كلهن محبوبات، وكلهن حسان ناظرات من وراء القبر إلى فجرٍ عريض، تلك الأعين التي أغمضت ما تزال ترى!
ويبدو مترجمنا من تعليقه على أول قطعة" النافورة" مأخوذا بالسحر البياني الإبداعي الذي تجلت عليه هذه القطعة التي نظمها الشاعر الفرنسي العظيم بودلير ، ولتذوق عذوبتها ينصحك مقدماً بقراءتها بشيء من التفكير والروية.ورغم نجاح طه حسين في نقلها إلى العربية بأكبر  قدر ممكن من الخلق الإبداعي،ليقرّبها من روح نصها الفرنسي الجميل، فإنه لدرجة تأثره بها يقرر أن الحكم على عظمة وعذوبة إبداعها لا يتيحه لك النص الذي ترجمه هو نفسه، بل إذا ما قرأته بنصه الأصلي، وبالطبع إنما يقصد هنا القاريء الملم جيداً باللغة والأدب الفرنسيين. وعلى هذا النحو جاء تأثره وإعجابه أيما إعجاب بالقطعتينن الأُخريين، وفق ما  عبّر عنه بصيغ أُخرى.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .