العدد 5521
الأحد 26 نوفمبر 2023
banner
دمعة وفاء.. خليل المريخي
الأحد 26 نوفمبر 2023

 إن كلمات الرثاء صعبة في حق الأوفياء، ومن هولاء الأخ العزيز والمؤرخ خليل بن محمد المريخي “أبوطارق”، وكيل وزارة الصحّة السابق، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في 14 نوفمبر 2023، عن عمر ناهز 89 عاما، ودار في خاطري الكثير من الذكريات عند سماعي نبأ الوفاة، فقد ربطتني بالفقيد علاقة صداقة متينة منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، وتوثقت أكثر من خلال تواصلنا وتبادلنا مختلف المعلومات وخاصة الاجتماعية والتاريخية، وكان الفقيد دائم الحديث عن ذكرياته مع المرحوم والدي المهندس صلاح الدين، ما جعلنا نزداد قربا، ولمست منه ما يتحلى به من أخلاق حميدة وتواضع وعلم، فقد كان موسوعة في كثير من المجالات، ومن المبادرين والمسارعين لعمل الخير، وكنت أحرص على التواصل معه عن طريق الهاتف أو زيارته كلما سنحت لنا الظروف، حتى أقعده المرض.
كان الفقيد من الأشخاص الملمين بالكثير من الأحداث والذكريات التي تستحق تدوينها، ونشر منها الكثير في مقالاته القيمة بالصحف المحلية، وكان يذكر أحداثها ووقائعها بكل أمانة وحيادية ودقة، وأصدر مجموعة من المؤلفات أولها كتاب “لمحات من ماضي البحرين” الصادر في العام 1987، تبعه كتاب “تطور الخدمات في المراكز الصحية” في العام 1993 وكتاب “الخدمات الصحية في ثلاثين عاما” في العام 1994 بنسختين عربية وإنجليزية، وكتاب “أحداث طواها الزمن” في العام 1995، وكتاب “ذاكرة التاريخ” في العام 2012، وكتاب “البحرين صور وحكايات من الماضي في العام 2015، وكتاب سير الزمن في العام 2019، وترك الفقيد بصمات مضيئة في مجال عمله في وزارة الصحة، والتي امتدت لنحو 45 عاما، وكذلك في عمله التطوعي والخيري في جمعية الهلال الأحمر، وجمعية البحرين الخيرية، والمؤسسات الأهلية الأخرى، وكذلك في مجال التدوين الذي يعتمد على جمع الوثائق التاريخية وكتابة التاريخ الذي هو أساس الذاكرة الوطنية وتعزيزها، فهي أمانة في أعناق الجميع، ولها فوائد عديدة للأجيال الحالية والمستقبلية، حيث استطاع الفقيد من خلال إحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه كباحث ومدون ومؤرخ في ربط التدوين والتوثيق، من خلال القيم المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف والثقافة العربية الأصيلة ودمجها بطريقة إبداعية في الموروث الاجتماعي والتراثي والثقافي المحلي، ما ساهم في إثراء المكتبة البحرينية عن أحداث وذكريات وطرائف ومعلومات جميلة وممتعة وقصص قيمة وهادفة عن الأسرة الحاكمة ودورها المشهود في بناء الوطن وحفظه وتطوره وتواصلها مع المواطنين، كما حبب الفقيد للقراء الاهتمام والإلمام بتاريخ البحرين المشرق، حيث وثق أسماء الرواد الأوائل الذين كانت لهم بصمات وجولات في بناء الوطن ونهضته في مختلف المجالات، وساهم في إظهار الحياة الاجتماعية والتراثية المميزة في البلاد، واستطاع بأسلوبه المميز والمشوق في حفظ تلك الأحداث من الضياع والنسيان، وجعلها في متناول الجميع للاستفادة من أحداثها وعبرها. وهناك الكثير عن الفقيد ذكرها الأستاذ إبراهيم المليفي جزاه الله خيرا في مقال قيم، حيث قال:
“في ديسمبر من عام 2007 أطلقت مجلة (العربي) احتفالاتها بمناسبة اليوبيل الذهبي (الذكرى الخمسين على تأسيسها)”.
“تضمن استطلاع البحرين الذي كان بعنوان (هذه الجزيرة تجمع أربع حضارات قديمة) بارقة أمل تمثلت في ذكر اسم أحد الوجوه التي نشرت صورتها ضمن ذلك الاستطلاع، وفي الصفحة 80 ورد اسم السيد خليل المريخي ضمن تعليق الصورة وهو محاط بالمهنئين يوم حفل زفافه، وعليه تم تحديد الهدف. رحلة البحث بدأت أولًا في أرشيف مجلة العربي، أملًا في إيجاد صور جديدة للسيد خليل المريخي تضيف للموضوع الجديد أبعادا بصرية لم تأخذ في حينها فرصة للنشر، تلك العملية استغرقت وقتا أطول من المتوقع، ولكنها انتهت بمفاجأة جميلة، أن الصورة التي نشرت في حينها خضعت لبعض التعديلات لكي تلائم المساحة المتاحة لها، ولكنها في الحقيقة أوسع من ذلك، كما توجد صورة ثانية للمريخي وهو جالس لم تنشر من قبل. المرحلة الثانية التي استغرقت أقل من العام، تلخصت في السؤال عن مكان المريخي، البداية كانت صعبة ولكن أهل البحرين معروفون بالكرم ومد يد العون للغريب قبل الصديق، وبعد جولة من الاتصالات، وفقنا الله بالوسيط النشط الأستاذ المؤرخ صقر عبدالله المعاودة، الذي كان جسر التواصل الفعَّال، ولم يقتصر دوره على إرشادنا إلى طريق عريس العدد الأول، ولكنه أمدّنا بمجموعة من الصور المهمة التي التقطها بنفسه وننشر بعضها مع هذا الموضوع”. “لم يكن خليل المريخي شخصية ترتضي القبول بالأدوار العادية في الحياة، فهو مؤرخ وناشط في العمل التطوعي ومؤسساته، ولكنه في الوقت نفسه يؤثر التواضع والابتعاد عن الأضواء، وربما كان ذلك سببا مباشرا في عدم الوصول إليه بسهولة إلا عن طريق صديق مقرب، لكنه عندما علم بأن حبيبته مجلة العربي تبحث عنه تخلى عن عاداته - أطال الله في عمره - وأتاح لنا التواصل معه في حوار مركز عن ذكرياته خلال زيارة بعثة (العربي) المكونة من اثنين هما الكاتب سليم زبال والمصور أوسكار متري. عن كيفية استدلال مجلة العربي على المكان الذي أقيم فيه حفل زفافه، يكشف المريخي عن أن: مدير إذاعة البحرين الأسبق المغفور له بإذن الله إبراهيم كانو كان يعلم بتاريخ زفافي، وكان في 4 يوليو من العام 1958م، واتصل بي من مكتبه وأبلغني بأن لديه ضيوفًا أعزاء من دولة الكويت يمثلون بعثة مجلة العربي، يرغبون في حضور حفل زفافي والتقاط بعض الصور؛ بهدف إعطاء القارئ العربي صورة عن عادات وتقاليد الزواج في البحرين ونشرها في العدد الأول. وعن رد فعله قال المريخي: رحبت كثيرا بتلك الزيارة وسعدت بأن تكون صورتي منشورة في العدد الأول من (العربي). وعن مكان حفل الزفاف، أفاد المريخي بأنه أقيم في منزل عمه أحمد بن خليل المريخي، أما طريقة الدعوة فقد حرص على توزيع مئات الدعوات المطبوعة لدى مطبعة النجاح لصاحبها حسن فخرو. وعن كيفية كسبه للرزق في حينها وهل كان حرفيا أم موظفا، بيّن المريخي أنه كان يعمل لدى دائرة الصحة العامة كما كان اسمها حينذاك، وكان يشغل منصب رئيس كتاب.
وعن علاقته بمجلة العربي وهل ما زالت مستمرة اليوم، يؤكد الأستاذ خليل المريخي أنه: مازال مواظبًا على اقتنائها منذ العدد الأول وحتى اللحظة، وهو ما يزال يعتبرها مرجعًا لكل من ينشد المعرفة في الثقافة والأدب والتاريخ وبحور الشعر وجميع حقول المعرفة التي حرصت المجلة على تناولها. وهناك مقابلة جميلة وممتعة من إعداد الأستاذ المبدع يوسف محمد إسماعيل بعنوان “عزوتي وناسي”، وكانت المقابلة باكورة هذا البرنامج المميز في العام 2012، والذي تابعه كثيرون داخل وخارج مملكة البحرين، حيث وثق الكثير من ذكريات الفقيد ودراسته في مدرسة الهداية الخليفية وبها كثير من الأحداث والقصص والعبر المشوقة ومنها: تدريس النحو والتاريخ واللغة الإنجليزية والعديد من المواد مما يمكّن الطالب بعد حصوله على شهادة الابتدائية العمل مدرسا، وكانت الدراسة من 4 حصص في الصباح وحصتين بعد الظهر، وكان انضباط الطلبة وحرصهم على عدم الغياب متعارفا عليه، وكان الطلبة يشربون كلهم من “إحله” (زير ماء) وبها “بالدي” (دلو) مربوط بحبل، والطالب الذي يحفظ القرآن يتم ترفيعه إلى الصف الأعلى، وكان الناس مبسوطين ومبتسمين وقنوعين، وذكر الألعاب الشعبية المتعارف عليها في ذلك الوقت وإصدار بطاقة التموين خلال الحرب العالمية الثانية، وتطور العلاج بوجود مستشفى نفسي ومستشفى لأمراض الصدر وإنشاء المراكز الصحية التي سهلت على الناس تلقي العلاج، افتتاح جسر الشيخ حمد في سبتمبر 1941 وإرسال أول بعثة لثلاث بنات لدراسة التمريض، وهناك العديد من المعلومات القيمة الأخرى.
تميزت حياة الفقيد بالعطاء المتواصل في خدمة الوطن والمواطنين، وكان محل احترام وتقدير جميع من عرفه، وترك لديهم ذكرى طيبة لا تنسى، وستبقى ذكراه حاضرة لدى الجميع بإذن الله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يدخله فسيح جناته، ويلهم أهله ومعارفه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 
  كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية