العدد 5508
الإثنين 13 نوفمبر 2023
banner
كمال الذيب
كمال الذيب
خارج “التنوير والتحرير”
الإثنين 13 نوفمبر 2023

بعض ما ينشر هذه الأيام بعيد تمام البعد عن التنوير والتحرير، بل إنه أقرب إلى الهراء العام، أو الانطباعات السطحية السريعة في أحسن الأحوال، وغالبا ما تبنى هذه “الأفكار الهشة” على قشة، فلا تستقيم بميزان العقل ولا ميزان الفهم البسيط حتى، وقد يقول قائل إن هذا الهراء العام بات يملأ الدنيا وحياتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات، بل وأصبح جزءا من وسائل التلهي، بدلا من صداع الدراسات والتحليلات، لكن المشكلة تتجلى بشكل أكبر عندما تنبري مثل هذه الكتابات إلى ممارسة ضروب التزوير والتستر تحت عباءة الاستعارات والكنايات لتمرير أشباه (أفكار) تسهم في تحريف الوعي، وبث الجهل ونشر الأكاذيب. خصوصا أن كتابها أعلنوا صراحة أنهم ليسوا بحاجة إلى الفكر أو العقل أو المنطق واستعاضوا عنه بالتهويمات التي يسعون إلى إحلالها محل الحقائق. أعلن أحدهم مؤخرا – على طريقة نيتشه - أن عصر (العقل) قد انتهى، ولا حاجة لوزن الأمور بميزان الفكر والتاريخ والسياسة، وتبعاً لذلك أعلن أن المفكرين العرب هم أصحاب (عقول مظلمة) وأنه لا قيمة ولا وزن لكتابتهم المثالية المتعالية، من أمثال محمد عابد الجابري وعبدالله العروي، وعلي الوردي، ومحمد أركون ومحمد عمارة، ومحمد جابر الأنصاري، بل وحتى طه حسين.
هذه خلاصة (فكر) أحد موظفي الكتابة، وهو لا يساوي في ميزان الفكر رطلا من الفحم، ووفقا لمثل هذا الطرح فالمطلوب التخلي عن كتب هؤلاء المفكرين “الذين أضاعوا وقت الأجيال في التنظير الفارغ” (هكذا!). العقدة كلها تتمثل في أمثال هؤلاء الذين لم يقرأوا يوما كتابا لأي مفكر.. أنهم يحتقرون الفكر والمفكرين لأنهم لا يقوون على قراءة ما يكتبون وأن عقولهم الصغيرة غير قادرة على التمييز بين (التاريخ الكبير) و(التاريخ الصغير)، أي بين النظرة الكلية التي يتجاوز فيها المفكر سلطة التفاصيل، ليرتفع إلى كتابة التاريخ، أي بين أن تنظر إلى أي موضوع من واقع المعاناة بكل تفاصيلها الجزئية والنفسية والإعلامية، وبين أن تنظر إلى البنية العميقة التي حركت والنتائج التي آلت إليها تحليلاً وتفسيراً وتجاوزاً، وصولا إلى الأسباب العميقة ذات الصلة بالصراعات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في لعبة الأمم التي نبدو فيها مستهدفين.
* كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .