العدد 5440
الأربعاء 06 سبتمبر 2023
banner
فضاءات لغوية رضي السماك
رضي السماك
حكاية مندور مع أستاذه العميد
الأربعاء 06 سبتمبر 2023

يُعد الناقد الأدبي الراحل الدكتور محمد مندور من أعظم من أنجبتهم مصر على ساحة النقد الأدبي ،وذلك في فترة مبكرة من تاريخ ونشوء النقد الأدبي الحديث في مصر والعالم العربي، بدءاً من أربعينبات القرن الماضي حتى رحيله الفاجع المبكر 1964 بعد تعرضه لمرض عضال وهو في عز عطائه الفكري وأوج نضج كهولته،لكنه حتى في سني عطائه المُبهر عانى كثيراً لسنوات طوال من التهميش، وتعرض للإجحاف والبطش، فأما البطش فقد كان شرفاً له يُضاف إلى سجله الوطني؛ لمشاركته شعبه فيما قدمه من تضحيات قبل ثورة يوليو  من أجل الحرية والأستقلال التام ، حتى قيل أن عدد المرات التي سُجن فيها لفترات متفاوتة بلغ واحداً وعشرون مرة! وإما الإجحاف فقد كان أشده مضاضة لما تعرض له من ظلم على يد اُستاذه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. لكن قبل أن نتناول قصته في هذا الشأن مع أستاذه، وحيث أن هذا المظلوم لم يكن إنساناً عادياً في مجال تخصصه،بل هو أحد نوابغ زمانه النادريين، فلعل من المناسب لتبيان حجم ما اُجحف بحقه أن نعرض نبذة مركزة عن سيرته الدراسية، وأهم اسهاماته المتميزة والمتفردة في حقل التأصيل والتنظير العلمي للنقد الأدبي العربي المعاصر،سواء إزاء الأعمال الأدبية التراثية القديمة، أو الأعمال الأدبية الحديثة.  

وُلد ناقدنا الكبير في بدايات القرن العشرين(1907) في مركز منيا القمح بالشرقية، وتعلم في كتّاب الشيخ عطوة، ونال البكالوريا( الثانوية العامة) 1925، وحصل على ليسانس الآداب 1929، وليسانس الحقوق 1930، وبدعم من أستاذه طه حسين تمكن من الحصول على بعثة إلى باريس لنيل درجة الدكتوراه ،وهناك درس علوم إنسانية عديدة، وحصل على شهادات في اللغة اليونانية وآدابها، كما درس اللغة الفرنسية وآدابها، وحصل على شهادة في فقهها، ناهيك عما ثقف نفسه من ثقافات مختلفة. وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية عاد لوطنه خالي الوفاض بدون نيله شهادة الدكتوراه، وهنا تعرّض للمشكلة التي ظل يواجهها لسنوات جراء غضب الدكتور طه حسين الشديد عليه؛ لرجوعه إلى البلاد بدون انجازه المهمة الأساسية التي اُرسل لأجلها، وهذا ما سنبسطه في الموضوع القادم . 

يؤرخ الناقد الراحل الدكتور جابر عصفور الفترة الذهبية لعطاءات وابداعات مندور النقدية والثقافية والإعلامية، إلى السنوات العشر الأولى من تخرجه 1939-1949، ففي هذه الفترة انجز مجموعة من المؤلفات القيّمة بالغة الأهمية، مثل "في الميزان الجديد" و" نماذج بشرية" و " في الأدب والنقد"، كما ترجم مندور كتابين مهمين عن تحديد منهجية البحث الأدبي، و ألّف كتباً مهمة في تاريخ النقد العربي . 

على أن كتابه "النقد المنهجي عند العرب" يُعد الانجاز الأهم الذي اشتهر به، وهو في الأساس رسالته لنيل الدكتوراه التي أشرف عليها أستاذه أحمد أمين. وساهم بمقالات ودراسات علمية نُشرت في الصحافة المصرية، مثل " الثقافة" و" الرسالة" و "الأهرام" و " الوفد المصري" و" المصري" و"البعث"، ورأس تحرير" صوت الأمة". كما خاض معارك فكرية ونقدية مع مجايليه من النقّاد وكبار الأدباء والمثقفين.  

وبعد ثورة 1952 قدّم إسهامات تحليلية متميزة في تاريخ الشعر المصري والعربي الحديث وتطوره، حسب المراحل التاريخية التي مر بها. سياسياً فإن مندور إذ كان قبل ثورة يوليو متأثراً بالمدرسة الإشتراكيةالديمقراطية الغربية التي انعكست في كتاباته النقدية لجهة تأكيده بأن للأدب وظيفة أو رسالة اجتماعية في الحياة، دون تأصيل منهجي، لكنه في أوائل الستينيات قبيل وفاته تأثر  بالموجة الدعائية الإعلامية الكاسحة لقرارات يوليو الاشتراكية الناصرية، ويقوده هذا التأثر نحو ميول اشتراكية ماركسية في التنظير الأدبي للمدرسة الواقعية التي لما تتخلص حينذئذ من مواريثها الستالينية في عهد الزعيم السوفييتي خروتشوف، وهكذا تبنى مندور نظرية" الانعكاس" من حيث إن النتاج الأدبي إن هو إلا أنعكاس لواقع الحياة الاجتماعية وما تموج به من تطور، بمعنى أنه ليس انعكاساً ميكانيكياً سلبياً، بل ديالكتيكياً إيجابياً يدفع به نحو التطور الاجتماعي. لكن تأثر مندور بالمدرسة الواقعية للأدب شابه شيء من الابتسار وعدم النضج التراكمي، سيما أنه رحل عن عالمنا عند بدايات تبنيه لهذه المدرسة الآخذة بنظرية الأنعكاس في تحديد وظيفة الأدب والنقد الأدبي المنطلق من هذا المفهوم ذاته. وكانت زوجته الشاعرة  ملك عبد العزيز التي تأثرت أيضاً بميوله اليسارية قد نذرت نفسها لجمع وحفظ تراثه العلمي والثقافي ونشره، كما وقفت معه في السراء وفي الضراء التي طبعت أغلب سني حياته بعد عودته من باريس إلى الوطن. وفي زوجته قال معبراً عن عشقه لها: " كان الشعر المنبعث من شخصية ملك عبد العزيز ومن نبراتها الهامسة هو الذي هدى روحي الظمأىٰ إلى الجمال". 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية