الكثير من الأدباء العظام كتبوا للصحافة ولامسوا أطراف بحيراتها، رافضين الاقتراب أكثر خوفا من الغرق والجلوس كالتماثيل في متحف فارغ، توفيق الحكيم كتب مقالات في أخبار اليوم، ومجلة آخر ساعة، ونجيب محفوظ كتب في مجلة الهلال وغيرها، لكن كانت تجربة الأديب الأميركي آرنست همنغواي مع الصحافة مختلفة في كل الأحوال، فقد كان يعتبر أن مقالاته الصحافية لا علاقة لها أبدا بفن الكتابة الحقيقي، ودافعها وقتي وليس للاستمرار، كذلك دعا إلى تركها قابعة في الصحف القديمة، إلا أن الجميع لم يصدقوه ولم يحترموا وصيته، فبعد سنوات من وفاته أعد وليم وايت كتابا يضم مقالات همنغواي الصحافية.
في عام 1928 كتب همنغواي مقالا بعنوان “برنامج الواقعية الأمريكية” نقرأ فيه.. الحرب في أسبانيا مستمرة منذ سنتين وفي الصين منذ سنة، أما في أوروبا فمن المفترض أن تبدأ في الصيف المقبل، وصدق همنغواي وأخطأ الساسة، فالكثير من المقالات الصحافية التي كتبها تتعلق موضوعاتها بتحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية بصورة عميقة وواضحة، ويعتبرها المراقب العابر بعيدة كل البعد عن همنغواي، وهنا نكتشف صياغة جميلة لأفكار سياسية دقيقة، وفي هذه المقالات ظل همنغواي ذلك المتعصب الكبير للوقائع والحقائق والنافر من التنظير التجريدي.
إن الشيء الأصعب في الحياة أن تكتب بنثر بسيط عن البشرية، وهمنغواي قال: علينا في البداية أن نعرف الموضوع ثم أن نعرف الكتابة، والكتب عليها أن تتحدث عن الناس الذين نعرفهم ونحبهم ونكرههم، وليس عن أولئك الذين ندرسهم. وفي مقال آخر يقول: الكتابة الجيدة هي الكتابة الحقيقية، والكتابة عن شيء لا نعرفه إنما هي خداع واحتيال. لكن أين مكان المخيلة.. يجيب همنغواي.. عدا الصدق والأمانة يكون الخيال الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يمتلكه الكاتب الجيد.
الصحافة بالنسبة للبعض مثل الدخول إلى غابة العشق، وللبعض الآخر ورق يابس في الماء.
كاتب بحريني