العدد 5426
الأربعاء 23 أغسطس 2023
banner
العميد بين حافظ وشوق
الأربعاء 23 أغسطس 2023

كان طه حسين ناقداً أدبياً من الطراز الرفيع في معظم الأجناس اللغوية،  من نثر وشعر ورواية وقصة ومسرحية وخلافها، لا يكاد يضاهيه أحد في مصر، ولم نعرف أن ناقداً أو منقوداً جادله من منطلقات علمية موضوعية في نقد من نقوده الأدبية، وكان أكثر شاعرين كبيرين يخشيان نقده هما أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ورغم قسوة نقده للكثير من قصائدهم، إلا أن كليهما في النقد القاسي متساويان عنده. وتوفى الشاعران في فترة زمنية لاتتجاوز الثلاثة أشهر من عام 1932، وكذلك فقد كانت الفترة الزمنية لميلاد كل منهما متقاربة، فلم يكن يفرق بين ميلاديهما  أكثر من ثلاث سنوات، فشوقي وُلد 1868 وحافظ وُلد1872، وقد رثاهما طه حسين بُعيد وفاتهما، ونوّه في هذا الصدد أن شوقي كان يؤثر أن يموت قبل أن يموت حافظ ليقوم الأخير برثائه، لكن القدر شاء أن يموت الأخير قبل الأول . وكان كلاهما يبرم أشد البرم من نقد طه حسين، ولاسيما شوقي. ومع ذلك فإن العميد يؤثر في محبته حافظ على شوقي، وقد ذكرت في حديث سابق  أن ثمة أسباب لهذه الأثرة آثرت تأجيلها حين ذلك، وهنا أوضح أن هذه الأثرة لم تكن عند طه حسين في نظري سوى لأسباب طبقية، ذلك بأن شوقي تربى في سراي الخديوي اسماعيل وعاش حياة مرفهة، وهو قائل البيت : أأخون إسماعيل في أولاده/ وقد ولدت بباب إسماعيلا. أما إبراهيم فقد نشأ نشأة فقيرة، لا بل اعترف العميد بذلك قائلاً:" لأن روح حافظ وافق روحي؛ ولأن كثيراً من أخلاق حافظ وافق أخلاقي…"، ومن هنا يمكننا فهم كيف كان شوقي من جانبه كريماً يغدق على الخديوي وعلى ذويه بقصائد المديح. 
ويصف طه حسين شيئاً من شمائل حافظ فيقول: " هو إذن صديق الشعب كله؛ صديق الفقراء والأغنياء وأوساط الناس، صديق العلماء المستنيرين، وصديق غيرهم من الذين لا حظ لهم من ثقافة، أو ليس من الثقافة إلا حظ ضئيل، تراه في كل بيئة، وتراه في كل مكان، تراه في حديقة الأزبكية يقرض الشعر، وتراه في الشوارع يماشي أصدقاءه باسم الثغر مشرق الوجه، مظلم النفس، ضاحكاً مما يحزن ومما يسر.". 
وبالطبع إنما عدّد العميد تلك الخصال من طبائع حافظ لينفي ضمنياً وجودها عند شوقي الأكثر بعداً عن بسطاء الشعب. وما كان طه حسين ليؤثر حافظ بهذا الحُب لولا أنه نفسه ذاق مرارة شظف المعيشة والفقر في طفولته وقد رواها في سيرته "الأيام"، كما رواها في اللقاءات الإعلامية التي أُجريت معه.  على أن حسين رأى في قصائد الرثاء لحافظ تكلفاً، وإن كان يعتني فيها بمحاسن الألفاظ ما يُعجبك.
وأخيراً ثمة استدراك وجب علينا استدراكه في هذه العُجالة،ذلك بأننا ذكرنا في مقال تحت عنوان "طه حسين ناقداً وشاعراً" نُشر في 26 يوليو الماضي، بأنه ذات مرة زار حافظ بمعية صديقين له منزل طه حسين ليطلعه على قصيدة جديدة يود معرفة حسين فيها مقدماً قبل أن ينشرها في الصحافة، وكان أن أثنى عليها العميد بكلمة واحدة إذ قال بأنها "حسنة" ففرح حافظ جداً لهذا الاستحسان الذي عبّر عنه العميد، ووجه كلامه على الفور إلى صديقيه قائلا: اشهدا  عليه ماذا قال، لئلا يغير رأيه بعد نشرها وينتقدها نقداً شديداً. وعندما ذكرت أن هذه الواقعة جرت في بيت العميد فقد استندت  إلى حوار إذاعي مسجل أجراه معه طاهر أبو زيد، ولم أكن قد قرأت بعد كتاب طه حسين الموسوم " حافظ وشوقي"، أما وبعد أن قرأته فاتضح لي أن الواقعة قد جرت عند صاحب الدولة محمد محمود باشا. ولعل هذا هو المكان الصحيح الذي جرت فيه الحكاية، ولعل طه حسين عند روايته لها أثناء الحديث المشار إليه التبس عليه الأمر، سيما أن أهم الحوارات التي أُجريت مع العميد كانت في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته وهو يعاني المرض. على أن طه حسين أمعن غامزاً بشكل غير مباشر في السخرية لاستماتة حافظ بالتمسك بكلمة الاستحسان اليتيمة تلك التي صدرت من حسين، والتي كانت على سبيل المجاملة العابرة.( انظر كتابه: حافظ وشوقي، مؤسسة هنادي للتعليم والثقافة، القاهرة، ص 121،  بدون تاريخ). 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية