العدد 4787
الإثنين 22 نوفمبر 2021
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
أميركا والصين: صراع على المستقبل
الإثنين 22 نوفمبر 2021

كان الصعود الصيني على الساحة الدولية وعلى الصعيد الاقتصادي صعودا باهرا وسريعا، رحبت به الولايات المتحدة الأميركية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وكان ترحيبا قصد منه موازنة القوة السوفيتية في ذلك الحين بقوة ماركسية صاعدة. 
وقد يكون من المهم الإشارة إلى أن صعود الصين الاقتصادي قد هذب كثيرا من طبيعتها الايديولوجية التي كانت توصف ذلك الحين بالدوغماتية المتصلبة. وهي أيديولوجية لم تعد قادرة على تحقيق اختراقات عالمية دون نزعة “عملياتية”.
ومع ذلك فإن الإنجاز الاقتصادي والتكنولوجي للصين خلال العقدين الماضيين وقدرتها على احتلال المركز الثاني ضمن أكبر اقتصادات العالم بالإضافة إلى تقدمها التكنولوجي الكبير، بات يمثل تحديا ومنافسا قويا للاقتصادات الغربية وتحديدا للولايات المتحدة الأميركية.. فهل يتجه العالم بفعل ذلك نحو مزيد من الانقسام؟ وهل سنرى بروزا جديدا للتكتلات والكتل العسكرية والإقليمية المتصارعة بعد غياب قارب الثلاثة عقود؟ وهل تتجه الولايات المتحدة الأميركية للإطاحة بالصين كما أطاحت بالاتحاد السوفيتي ومنظومته العسكرية والسياسية، أم إن المكانة الاقتصادية الصينية وتمفصلها في الاقتصاد العالمي بل وحضورها القوي في الاقتصاد الأميركي يحد من التفكير بفعل كهذا، لكونه فعلا قد يطيح بالنظام الاقتصاد العالمي بما فيه الاقتصاد الأميركي، ليس لكون الصناعات الصينية مجيرة في جلها للسوق الأميركي، ولكن لكون الاقتصاد الصيني بات متمفصلا في الاقتصادات الصناعية الكبرى، بحيث أن أي هزة أو أطاحة بالنظام السياسي الصيني، بل إن أي خلخلة للنظام الصيني قد تقود إلى اهتزازات كبرى في الاقتصاد العالمي، وإن ما نتابعه على وسائل الإعلام من تراشق بين القطبين الكبيرين، لا يعدو أن يكون صراعا محكوم المدى ولربما النتائج. كما أنه صراع على الأسواق والسبق التقني الجديد، والقدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية ولربما خوفا أميركيا من أن تفقد جزءا مهما من هيمنتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية على العالم، لخصم من الشرق.
من الناحية الأخرى، باتت الصين، وخلال السنوات القليلة الماضية، تسارع في ردم الفجوة الاقتصادية بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، إذ في الوقت الذي يتجه الناتج الإجمالي المحلي مثلا في الولايات المتحدة الأميركية للانخفاض بمعدل 2.3 % في العام 2021 نجد أنه وبنفس القدر يرتفع في الحالة الصينية. 
كما أن في الوقت الذي قد تستمر الولايات المتحدة حتى نهاية هذا العقد، وهي تمثل قطبا اقتصاديا مهما في العالم، وحجم ثقلها في الاقتصاد العالمي الذي يمثل حتى الساعة ربع الاقتصاد العالم، فإن الصين مرشحة لتجاوز حصتها الحالية، التي تتدنى قليلا عن الخمس، إلى ما يفوق ذلك بعض الشيء، وإن حجم الفارق بينها وبين الولايات المتحدة سيتقلص لما دون الأربعة مليارات بالعام 2025، وأنه حتى العام 2030 قد يكون على وشك أن يتجاوز فيها حجم الناتج الإجمالي المحلي الأميركي المقدر بحوالي 25 تريليون دولار. وهو صعود قد لا تستطيع الولايات المتحدة وقفه، إلا أنها قد تستطيع عرقلته أو إبطاءه بفعل هنا وإجراء هناك. مع الأخذ في الاعتبار أن معدلات الدخل الفردي فيها، أي الصين، ستبقى منخفضة مقارنة بكل الدول الأوربية لاعتبارات متعلقة بحجم السكان الضخم وضعف حضور الطبقة الوسطى.
من الناحية الأخرى، فإن العلاقات الأميركية - الصينية قد انفتحت على بعضهما البعض منذ الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي الأسبق نيكسون في فبراير من العام 1972، وهي علاقة قد تطورت بشكل كبير خلال العقود الخمسة الماضية لصالح البلدين، رغم مرورها ببعض المنعطفات السياسية. وهو صعود قد استفادت منه الصين لتكون الدولة ذات الأفضلية في السوق الأميركية وفق الاتفاقية الأميركية - الصينية الموقعة في أكتوبر من 2000.
ولم تبدأ محاولات الولايات المتحدة للحد من النفوذ والصعود الصيني في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي، مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وإنما هي قد بدأته مع الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون، الذي اهتم بمضاعفة الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري في إقليم المحيط الهادي ضمن استراتيجية الحد من النفوذ الصيني الذي بدا متعاظما بعض الشيء. وهو ما دفع نحو مزيد من الاهتمام الأميركي بشرق آسيا، الذي توج إبان حكم الرئيس الأميركي الأسبق أوباما باتفاقية الأسواق المفتوحة بين دول المحيط الهادي. وهو ما يعكس فعل تكثيف الاهتمام الأميركي بهذا المنطقة من العالم ذات الأهمية الاقتصادية المستقبلية المتعاظمة.
ومثلت مرحلة الرئيس دونالد ترامب أكثر مراحل الرؤساء الأميركيين استهدافا للمصالح الصينية في الداخل الأميركي وخارجه. إذ جاء ذلك على أكثر من مستوى وصعيد، الأول رفع التعرفة الجمركية على معظم المستوردات الصيني، وثانيا استهداف الشركات الصينية العاملة في أميركا ولربما أكثر هذا الاستهداف كان متمثلا في وقف عمل شركة هواوي الصينية ضمن نظام “5G” في الولايات المتحدة، تحت مبرر أنه يتيح للصين قدرة تجسسية أكبر على الداخل الأميركي، وهو الأمر الذي تبعه بعض حلفاء أميركا في أوروبا وتحديدا بريطانيا. وثالثا إجبار الشركة الصينية المالكة لتيك توك على نقل تشغيل برنامج تيك توك من الشركة الصينية المالكة لشركة أميركية (اوركل)، في ظل مخاوف أثارتها الإدارة الأميركية السابقة، بشأن البيانات الأميركية التي يجمعها تطبيق الفيديوهات الصيني الشهير من مستخدميه. ورابعا إفشال الكثير من المشروعات الاقتصادية التي أبرمتها الصين مع حلفاء أميركا في منطقة الشرق الأوسط وتحديدا مع بعض دول الخليج والعراق وإسرائيل. ولا أعتقد أن سعي الإدارة الأميركية الجديدة في إعادة الحياة للاتفاق النووي الإيراني بعيد عن فكرة تحجيم الاستفراد الصيني بالسوق الإيرانية والمتمثل في الاتفاق الاقتصادي الإيراني - الصيني الذي تجاوز في قيمته 25 مليارا. إلا أن الاستهداف الأكبر قد تمثل خامسا في تلك المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي ترامب مع الرئيس التايواني، منهية بذلك تعهدات بهذا الشأن دامت لأكثر من 4 عقود. 
كما قادت الحرب الاقتصادية بين البلدين لأن تتبنى الإدارة الأميركية مواقف متشددة في مجموعة من القضايا الساخنة في شرق آسيا، والمتمثلة في حركة الاحتجاجات المطالبة بحريات سياسية أوسع، ورفضا للإجراءات الصينية المقيدة لها في جزيرة هونكوك، وفي المسألة التايوانية التي جاء الرد الأميركي على التهديدات الصينية لها بتعهدات أميركية أكبر بالحماية. وكذلك في اتهام الرئيس الأميركي السابق للصين بكونها المتسبب الرئيس والمقصود لجائحة كورونا، لدرجة أنه قد تعمد أن يطلق عليه اسم “الفيروس الصيني”. وقاد كل ذلك إلى توتر في العلاقات الدبلوماسية تمثل في طرد لدبلوماسيين من كلا البلدين وإغلاق لقنصليات أحدهما الآخر في كلا البلدين. 
ولم تهدأ حدة “الخلاف” بين البلدين إلا مع وصول الرئيس بايدن للبيت الأبيض. وهو وصول قد يكون هدّأ بعض الشي من التراشق الإعلامي والاقتصادي بين البلدين، إلا أنه لم ينه جوهر خلافهما، وهو خلاف قد لا يكون في جله نتيجة لاختلاف في المواقف السياسية من قضايا العالم أو الخوف من تهديد عسكري صيني وشيك، بقدر ما هو من نتيجة للصعود الاقتصادي الصيني الكبير، الذي بدا متمفصلا في كل اقتصادات العالم الغربي والأميركي. وتمكن الصين من المعرفة التكنولوجية، التي مكنتها، مع السابق، من تحقيق اختراقات هائلة في صناعة وإنتاج تكنولوجيا الاتصال الجديدة. فهذا الخوف قد دفعها نحو محاولة تبطئة هذا الصعود على أكثر من صعيد.
وهذه سياسة دفعت الطرف الآخر نحو مزيد من التصلب. إذ فشلت كل الدعوات الأميركية للصين بالتعاون فيما يتعلق بالبيئة والمشكلات الاقتصادية العالقة فيما بينهما. وهو رفض يشترط فيه الطرف الصيني إلغاءً لكل القرارات التي اتخذت إبان الرئاسة الترامبية، التي تعتبرها الصين مجحفة بحقها من الناحية الاقتصادية والسياسية.
والحقيقة أن الولايات المتحدة قد لا ترغب في الدخول في نوع من الحرب الباردة مع الصين أولا بفعل تمفصل الصين كما قلنا في الاقتصاد العالمي، وثانيا لأن الصين باتت تمثل قوة اقتصادية عظمى لا يمكن قهرها أو تجاوزها بسهول دون تبعات اقتصادية وسياسية فادحة على العالم. فهي، أي الصين، باتت تمثل قوة اقتصادية وتكنولوجية لا تجعل منها خصما يسهل كسره كما كان حال الاتحاد السوفيتي في القرن الماضي. (صحيفة الواشنطن بوست، 23 سبتمبر 2021).
وخلاصة القول إن استمرارية الموقف الأميركي من الصين في عهد بايدن، رغم تعهداته بإنهاء هذا الخلاف، إنما تعكس حقيقة أن مواقف الرئيس ترامب السابق لم تكن نزعة شخصية تعكسها طبيعة شخصيته الاستعراضية، وإن كانت في بعضها كذلك، بقدر ما هي موقف لمؤسسة الدولة العميقة من الصين وتنامي قدراتها الاقتصادية وإمكاناتها التكنولوجية والمعرفية المتصاعدة، التي باتت تمثل على المدى البعيد تهديدا للهيمنة الأميركية على القرار الدولي ولربما تقليصا لقدراتها الضغطية على حلفائها من الدول كما الدول الأخرى. فالخوف من الإزاحة قد يدفعها نحو اتخاذ خطوات وقرارات تعتقد أنها قد تحد من تنامي القوة الصينية بجوانبها المختلفة. وهو صراع على امتلاك المستقبل الذي لا يمكن للدول امتلاكه إلا بمعارف وإمكانات تكنولوجية جديدة، باتت الصين أحد أهم مالكيها ومنتجيها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .