العدد 2963
الخميس 24 نوفمبر 2016
banner
مع التيار... بوعي
الخميس 24 نوفمبر 2016

الحنين إلى الماضي، من الممارسات التي لا يخلو منها مجتمع، على ما أظن، لأن الإنسان بطبعه يحنّ إلى اللحظات البعيدة التي فارقته، ويقارن بينها وبين حاضره بشكل ظالم وقاس، ينتهي إلى أن يطلب من الله تعالى أن يسقي ذلك الزمان، لكي تدبّ فيه الحياة، ويخضرّ عوده بعد موات.

وعلى سبيل المثال، يكثر الحديث اليوم عن سيطرة التكنولوجيا على مفاصل حياتنا كلها، وارتباط الناس بالهواتف الذكية أكثر من ارتباطهم بمن يجلسون محاذين لهم، وبرود علاقات البشر ببعضهم، وابتعاد الصغار عن أخلاق الأجيال الماضية، حتى فقدوا “السّنَع”، ومن هذا الحديث وشبهه الكثير الكثير، الذي ينتهي بالتحسّر، وضرب الكف بالكف، والتحصّن بالله من الآتي.

غير أن المحاولات المحمومة في عدد من دول الخليج العربي للحفاظ على التراث، لم تستطع، ولن تقوى على إعادة الماضي وإحيائه، ولا تفعل الدول ذلك إلا من باب الترفيه والترويح، ولكن ليس من باب المعايشة الحقيقية، لأن هذا مخالف لنواميس الحياة، فالمجتمعات كالأحياء، إن ماتت فيها خصلة، سيكون من العبث أمر إعادة إحيائها مجدداً.

فما الذي علينا فعله، أو على مستشعري الخطر على ما بقي من القيم التي ورثوها من الذين سبقوهم في العيش؟ هو أن نكفّ عن المثاليات وحسب، ونعيش عصرنا الذي نحن فيه، بكل ما فيه، فليس من أشقى ممن يحاول العيش في غير عصره، سواء بالرجوع إلى الماضي الذي أغلق بابه، ويصير كل ما ينتمي إليه “غربة وغرابة”. سواء بالذهاب إلى المستقبل الذي لم يُفتح بابه بعد، والأمران سيّان في الظاهر، ولكن من يحاول العودة إلى الماضي هو في حقيقة الأمر خائف من أمور شتى. المقبل والمستقبل بحد ذاته مدعاة للخوف، خصوصاً عند أولئك غير المتحصنين بالثقة الكافية التي تجعلهم يتطلعون إليه. والحاضر أيضاً مريب، لا يمكنك القبض عليه، ولأنه غير ثابت، فلا يمكن للماضويين أن يتمسكوا به، فيهربون منه إلى إطار الصورة، الإطار الذي يشعرون في داخله بالحماية، ويحسّون فيه بالأمان، ولأنه لن يعود إلى العيش مجدداً فلا أحد يهددهم أو يربك نظامهم الرتيب المطمئن.

على الرغم من أن الكثير من الناس لا يحبون أن يقرأوا الكلام الآتي، إلا أن التجارب تقول إن ما مضى لن يعود ولو بذلنا الغالي والنفيس في هذا، والانفصال عن الواقع بكل ما يمكن أن يفتح به على الغد سوف يوقعنا في غربة متشظية، فإن الغد الذي سيأتي سوف يكون معتمداً على مدى معرفتنا باليوم، ومن دون هذه المعرفة ليس للغربة إلا أن تتضاعف، والانعزال أن يأخذ مداه.

لن يقوى أحد على العيش خارج زمنه، ولكن مع أهمية الوعي لما غادره، والاستعداد لما هو مقدم عليه، وتعلم كيف يطفو ويسبح مع تيار اليوم من دون أن ينسى ثوابته، وإلا سنبقى مراقبين للتغيرات لا صانعين لها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .