+A
A-

دور سمو الأمير خليفة بن سلمان في الشعر والثقافة

سموه كان حافظا ومتذوقا للشعر وكتب البدوي النبطي وعرفت له قصائد كثيرة

سموه تبادل مع شقيقه المغفور له سمو الشيخ عيسى بن سلمان قصائد في مناسبات مختلفة

الشعراء دأبوا على إهداء دواوينهم إلى سموه لتُقتنى في مكتبته

 

في البدء

ليس سهلا استقصاء دور مركب ومؤثر في فترة زمنية ممتدة عبر بضعة عقود. فمنذ أطل خليفة بن سلمان على الشأن العام بتوجهاته المترابطة في كل الحقول التنموية، تشكلت آثار لذلك في مواقع كثيرة، تبدو للوهلة الأولى متباعدة، ولا يربطها ببعضها أي رابط عضوي، فهل يستطيع الباحث أن يتتبع رحلة الماء في عروق الشجرة وهي تنمو وتتكون بالنسغ الأخضر والأوراق وتصير الزهور ثم الثمار والبذور؟ فهي جوانب يمكن لمحها ولا يمكن تقنينها أو تحديد آثارها وعلاماتها، فهي تدخل في تشكلات الحياة ذاتها.

نشأ خليفة بن سلمان في رحاب والده صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد، وكان الشيخ سلمان يولي أبناءه عناية فائقة، ومنذ بدأوا يدركون ما حولهم كان سموه يحرص على أن يعدهم الإعداد الواعي والمناسب لما ينتظرهم من مهام كبيرة، تدور حول إرساء أركان الدولة على أسس محسوبة، مضبوطة، إنها مهمة يترشح لها الأبناء ولابد أن يكون الاستعداد لها ملائما.

مجالسنا مدارسنا

لقد كان سمو المغفور له الشيخ سلمان بن حمد يحرص بشكل مستمر على أن يحضر أبناؤه المجالس المختلفة التي تنعقد في ظلال الحكم وتسيير الأمور وبناء الحياة، وكان المنطلق في هذا كله.. مجالسنا مدارسنا.. وكان خليفة بن سلمان يتابع بكثير من الاهتمام ما يسمع وما يرى ويروى، والذي يروى كان كثيرا.

التاريخ منبع القيم

فها هي صفحات من التاريخ القريب والبعيد، تكتنز بالبطولات والفروسية والأيام المختلفة من تاريخ العائلة الحاكمة، وتاريخ الوطن، وتاريخ المنطقة، وكانت كل هذه الروايات التي تتداول في هذه المجالس وبشكل خاص مجلس الشيخ سلمان، وتكرس قيم الفروسية والشجاعة والشهامة والبذل والتضحيات والمواقف التي يرويها التاريخ بالإعجاب، ولأن الشعر ديوان العرب، وسجلّ أيامهم ومفاخرهم، فقد كان الشعر في مجلس الشيخ سلمان يلقى ويروى ويسمع، وكان خليفة بن سلمان يزداد يوميا ولعا بهذا التاريخ وهذه الأشعار، وصار للشعر مكانة في وجدانه المتأجج بالطموح والمتأجج بالبناء وتحقيق الآمال والعمل والإبداع ويتماهى الشعر مع السرد، الآتي من التاريخ والحكايات التي تربط الإنسان بجذوره وتذهب مع تلك الجذور إلى الفروع السامقة.

ولما كان خليفة بن سلمان يتلقى دروس اللغة العربية، فيما يتلقى من دروس في حقول المعرفة الأخرى، فقد كان أساتذته الكبار يجعلون من القرآن الكريم والمختارات من الشعر العربي النصوص التي يديرون حولها دروسهم في التذوق والنحو والبلاغة والفصاحة وجميل البيان، وينشأ خليفة بن سلمان، وقد ارتوى بغير قليل من هذه الأجواء، وصار للشعر مكانة في نفسه، وصار للمعاني الكبار التي ينطوي عليها سرد الماضي مكانة تحيط بالتاريخ ماضيا، وتنظر في المستقبل أملا وحلما.

يتذوق الشعر الفصيح والعامي

إن ما روي لخليفة بن سلمان مما يجمل من الشعر قد أسس لدى سموه ذائقة بارعة في تلقيه الشعر، بالفهم والتذوق وتتبع المعاني المتفجرة من وراء هذا البيان المصفوف والموزون والمقفى.. ولأن الروح العربية المرتبطة بالبادية حاضنة التاريخ العربي التي شحنت العرب بالقيم والشجاعة والكرم والبيان وللحفاوة التي تلقاها قصص البادية وأشعارها، ولأن سموه كان يسمع ويروي، فقد تجاور في وجدانه الأشعار البدوية والأشعار الفصيحة، وصار خليفة بن سلمان يحفظ الكثير من الأشعار ببعديها، وهذا الكمون الفني سرعان ما عبر عن نفسه خلال مقدرة فنية، فقد كان خليفة بن سلمان يكتب الشعر البدوي، النبطي، وعرفت له في هذا الحقل قصائد كثيرة، وقد تبادل مع شقيقه المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان قصائد في مناسبات مختلفة، وكذلك كان له محاورات شعرية مع الملك حمد في أكثر من مناسبة، وإن قائدا يقول الشعر ويتذوق الشعر ويعبر عن مكنونات وجدانه بالشعر والنثر لهو قادر بكل يقين على تذوق شعر الآخرين، ويحدد مستويات هذا الشعر، ويتلقى الشعر من الشعراء بإصغاء لافت وحينما يسمع الشعر تبدو على محياه تعبيرات متفاوته بحسب ما يسمع، ويعبر عن إعجابه إذا أحسن الشاعر، وإذا وفق الشاعر إلى بيت في القصيدة له معنى عميق، باذخ ولافت، ولا يخفي خليفة بن سلمان إعجابه بما يسمع إن كان جديرا بالإعجاب، وكان يحتفي بالشعراء، ويرحب بهم ويثني على شعرهم، وهذا كله يقودنا إلى أن العلاقة بين سمو الأمير خليفة بن سلمان والشعر علاقة حميمة، فهو يروي الشعر ويحفظ الشعر ويتذوق الشعر، ثم كان يكتب الشعر، فهذا هو المناخ الذي تكيفت فيه العلاقة بين خليفة بن سلمان والشعر، هي علاقة قامت على الفهم والتذوق والتقدير والالتفات إلى القيم الجمالية والأخلاقية في الشعر العربي.

تواصل دور خليفة بن سلمان في الشأن العام وذهب بعيدا في الإدارة والقيادة والتنمية، وصارت الأمور ترتبط به ويعهد بتنفيذ مستحقاتها إلى القادرين ممن يثق بهم وتجلت إبداعات خليفة بن سلمان الإدارية، بشكل لافت، حيث وضع البحرين في مصاف من الدول الكبار وعرفت بوضوح شخصيته الكاريزمية البالغة بقوة، والتوافق والانسجام والنضج، وصار خليفة بن سلمان محط الإعجاب والتقدير العميقين.

وكما هو معروف عبر التاريخ، فإن العرب يعبرون عن مكنونات وجدانهم بالشعر، وصار الشعر لدى العرب هو الوسيلة التي يعبرون بها عن حبهم وإعجابهم ووفائهم وتقديرهم، وكان لخليفة بن سلمان من ذلك الكثير مما يصعب الإحاطه به، ولأن الإعجاب والحب يملأ مساحات كبيرة، فقد كان الشعر الذي يحمل هذه المشاعر كثيرا في كمه، عميقا في نوعه.

الشعر والبطولة

إن شخصية خليفة بن سلمان ألهمت عشرات الشعراء، قصائد تكرست لمزايا هذا القائد الفذ ودارت حول شخصيته وإنجازاته ومواقفه حركة شعرية لافتة، اتخذت روحها من مزاياه ومن أبعاد شخصيته وتكامل الإنسان في مواقفه وبراعة قيادته، فصار موضوعا للشعر الجميل الذي يتغنى بجوانب متعددة من هذا الرجل الذي هو في منتصف الساحة الشعرية كالراية يلتف حولها الآخرون، ويقولون في خصائص حضوره ما يجعل من الشعر ويطيب من البيان.

إن خليفة بن سلمان قد أشعل خيال الشعراء وبث في شعرهم قيما اشتقت من قيادته ومواقفه ومشاعره وأقواله وإدارته، فصارت أشعارهم وثائق تؤرخ لهذا الرجل الذي قاد هذه السفينه أعواما طويلة، ولم تخطئ الميناء، ولم تضل في البحر، بل كانت تعرف كيف تبحر، وكيف تقف في موانئ السلام والاطمئنان.

لقد تكونت علاقة وثيقة بين اكتمال البطولة والنموذج القيادي والإنساني في شخصية خليفة بن سلمان، واكتمال الشعر المنبثق من هذه البطولة والإنسانية، فجاء الشعر توصيفا وتسجيلا وتحليلا في إطار لغة اجتياحية، مكتنزة بالبساطة والعمق وبالتلقائية والصناعة، متكاملة في رحاب رجل هو النموذج المكتمل لمعنى التفاني والإنجاز والتخطيط.

إن العلاقة بين الشعر وخليفة بن سلمان ظاهرة تكاد تجعل خليفة بن سلمان هو الشعر، ولسنا بصدد دراسة الشعر الذي تماهي مع خليفة بن سلمان، فهذا له مكان آخر، ولكننا من وجهة كمية وموضوعية نقول إن خليفة بن سلمان كان محفزا لا حدود لأثره في حركة الشعر المعاصر.

جاشت النفوس

إن كثيرين ممن قالوا الشعر لم يعرف لهم شعر في أي موضوع آخر سوى ما فجره من مكامن مشاعرهم خليفة بن سلمان، فكان لروعة حضوره ما يبرر استدعاء شاعرية كانت كامنة أو هادئة، فجاشت النفوس، وكان الشعر في هذا الحقل لا سواه.

خليفة بن سلمان كان المفجر الأول لحركة شعرية تعالت غصونها والتفت أشجارها، وكما هو معلوم، فقد نشأ خليفة بن سلمان في منطقة الصخير وتلقى الشعر سماعا ورواية، واكتملت فيه من الشعر الرواية والدراية، وقد تجلى اهتمام خليفة بن سلمان بالشعر خاصة والأدب عامة في مواقف كثيرة.

ومن هذه المواقف المشهورة أنه في مناسبات كثيرة كان يصغي إلى الشعراء يلقون بين يديه أشعارهم التي تدور حول منجزاته وسماته، وكان الشعراء يحسون أمامه بالدفء والألفه، وهو يغمرهم باهتمامه وتقديره، ويتذوق الجميل من أشعارهم وقلما يخلو مجلس خليفة بن سلمان من الشعراء الذين يتلقون الترحاب من سموه.

لقد كان خليفة بن سلمان يشجع الشعراء، ولقد دأب على نشر مجاميع للشعراء على حسابه وبعض الشعراء كتبوا دواوين كاملة محضوها لسموه وكرسوها له.

وحين ألمَّ بخليفة بن سلمان عارض صحي في الثمانينات من القرن الفائت نشطت حركة الشعر في البحرين وتداعي كل الشعراء يتمنون لسموه العافية والصحة والشفاء والعودة الحميدة، وكتبت في تلك الأيام عشرات القصائد، واحتفى به الشعراء غائبا، ولما منَّ الله على سموه بالشفاء احتفي به الشعراء حاضرا.

يرعى سموه الأنشطة الأدبية

وقد دأب الشعراء على إهداء دواوينهم إلى سموه؛ ليتم اقتناؤها في مكتبة سموه، وكان بقدر هذه الإهداءات إلى درجة أنني سمعت سموه ذات مرة يقول من أراد أن يقدم لي كتابا أو مطبوعة، فليكتب لي إهداء بخط يده، وهذا يصور الموقف الدافئ والتواصل الإنساني الحميم بينه وبين المؤلفين والمبدعين من كتاب الشعر وغيره، ولم يقتصر اهتمام سموه على الشعر فقط، فهو يتابع الحركة الأدبية في فروعها كافة، وقد أقيم سنة 1994 مؤتمر للنقد في جامعة البحرين، واستقبل خليفة بن سلمان المشاركين في ذلك المؤتمر من النقاد العرب والبحرينيين واستقبلهم في ديوان سموه ورحب بهم، وأدار معهم الأحاديث بكل تواضع ودفء، وتعرف عليهم وتبسط معهم وتواصل مع البعض مما كان يعرفهم وروى بعض الذكريات في ذلك المجال.

ولما عقدت وزارة الإعلام ملتقى طرفة بن العبد في أواخر التسعينات استقبل خليفة بن سلمان المشاركين في ذلك الملتقى ورأيته وسمعته يتحدث مع الجميع، ويثير معهم بعض القضايا المتعلقة بالأدب، وقال سموه معلقا على ما يسمع من قصائد، الذي يقوله الشعراء نفهمه ونعرفه، لكن لا نقول مثله.

ويومها أصغى سموه إلى جواب من أحد الباحثين، حيث سأل عن موطن طرفة بن العبد بالدقة وأجاب الباحث إن طرفة بن العبد بحريني واستشهد الباحث بقول طرفة:

كــــــأن حــــدوجَ المالـكــــــــــيةـِ غــــــــــــــدوة ً

خـــلا يا ســـفينٍ بالنــواصفِ من دَدِ

 

والمالكية قرية في البحرين، وذكرها طرفة في شعره.

وفي المناسبات الأدبية يحظى المشاركون بتشجيع خليفة بن سلمان ويستقبلهم ويدعم جهودهم، وهو يتلقى إهداءاتهم المختلفة ويسأل عنهم ويعودهم.

الجوائز التقديرية للشعراء

ولما خصصت حكومة خليفة بن سلمان جوائز تقديرية وتشجيعية للمبدعين في البحرين نالها كثيرون من الأدباء والشعراء والفنانون، فنالها إبراهيم العريض ومحمد جابر الأنصاري وأحمد محمد الخليفة ومبارك العماري وعلى الشرقاوي وراشد العريفي وعبدالله المحرقي، وقد خصص شعراء دواوين شعر كاملة تدور جميعها حول شخصية سموه، ومنهم على الشرقاوي وجاسم سبت ويحيى الذوادي، وقد جمعت الأشعار التي قيلت في سموه في فترات سابقة، وكانت عددا من المجلدات.

إن ما يحظى به الأدباء والشعراء من تشجيع لا يأتي بعيدا عن تشجيع وتوجيه سموه، فالنشر المشترك الذي تنهض وزارة الإعلام من خلال قطاع الثقافة هو شكل من أشكال دعم سموه للأدب والأدباء والشعراء، وهو الداعم دائما للحركة الأدبية.

وتنشر وزارة الإعلام في مطبعة الحكومة عددا كبيرا من إنتاجات أدباء البحرين، وهو شكل من إسهامات حكومة خليفة بن سلمان في الحركة الأدبية، وهي حكومة تستمد روحها وتوجهاتها من توجيهات سموه.

لقد أثر خليفة بن سلمان في الثقافة بشكل عام أثرا بارزا، وقد أرسى سموه ثقافة الإنجاز من خلال مسيرته الملأى بالإنجازات وكرس ثقافة الاهتمام بالشأن العام وتفاصيل الحياة، وهذه الألفة بين الناس وبين إبداعات رجل فيه من سمات الأبوة والإنسانية ما لا يحيط به شعر ولا نثر.