+A
A-

احذروا هذه المؤسسات

 لماذا في هذا العالم الذي ينتج من الغذاء أكثر مما يكفيه، يموت الملايين جوعًا؟ هذا هو التساؤل الذي دائمًا ما يقف أمامه كثيرون حائرون لا يملكون إجابة شافية عليه.

في ديسمبر من عام 2016، قالت وزيرة التنمية الدولية البريطانية “بريتي باتل” إن هناك ما يزيد على 37 مليون إنسان في أفريقيا يعانون من نقص الغذاء ويواجهون خطر الموت جوعًا، وحثت المجتمع الدولي على التدخل والمساعدة.

وفي الحقيقة، إن المجتمع الدولي الذي كانت تدعوه “باتل” هو نفسه الذي ظل يراقب موت 260 ألف إنسان جوعًا أثناء الجفاف الذي دمر منطقة القرن الأفريقي خلال عامي 2010 و2011، والذي ازدادت حدته لدرجة أن النساء اضطررن لربط خصورهن بالحبال لكبح جوعهن من أجل توفير “الطعام” الذي لا يمكن وصفه إلا بالفتات لأطفالهن.

مسؤولية من؟    

أثناء البحث عن المسؤول عن هذه المأساة، دائمًا ما تفضّل وسائل الإعلام التركيز على أشياء مثل موجات الجفاف وارتفاع أسعار المواد الغذائية وبشكل أكبر على دور الجماعات المسلحة.

هذه العوامل لها تأثير بالتأكيد في الشكل الذي آلت إليه الأوضاع ولكنها ليست الوحيدة أو ليست أهمها. فبشكل مباشر، استمرار أزمة الجوع التي ضربت أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى لعقود كانت بسبب سياسات الإقراض التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على هذه البلدان، والتي حولت أفريقيا المكتفية ذاتياً والمنتجة لغذائها إلى قارة تعتمد على الواردات والمعونات الغذائية من الجميع.

فمنذ أن تم تطبيق سياسات الإقراض المفروضة من قبل المؤسسات المالية الدولية لأول مرة في عام 1981، تضاعف عدد الأفارقة المقيمين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذين يعيشون على أقل من دولار في اليوم إلى 313 مليون إنسان بحلول عام 2001، وهو ما مثل نحو 46 % من السكان، وذلك بحسب بيانات مؤسسة “أوكسفام”.

وأدت برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد والبنك الدولي التي تم تطبيقها في هذه البلدان خلال الثمانينيات والتسعينيات إلى استنزاف القطاع الزراعي، لذلك تربط العديد من الدراسات الحديثة بين هذه السياسات وبين الحالة المهترئة والأنظمة الفقيرة التي يتسم بها القطاع الزراعي في هذا الجزء من القارة. ببساطة ما حدث هو أنه تم تفكيك كل شيء.

حتى يومنا هذا، لا تزال تدفع البلدان الأفريقية التي تعاني من المجاعات ثمن سياسات المؤسسات المالية “رفيعة المستوى” التي من المفترض أنها ما جاءت إلى هذه المنطقة إلا لتساعد هؤلاء الناس.

 

كيف ومتى ظهرت المجاعات؟

بعد استقلالها عن القوى الاستعمارية في الستينيات كانت الدول الأفريقية مكتفية ذاتيًّا من الغذاء، ولكن الحال تبّدل في غضون سنوات وأصبحت المجاعات ظاهرة منتشرة في أنحاء كثيرة بالقارة.

وفي تحول درامي لم يستغرق أكثر من 40 عامًا، أصبحت جميع البلدان الأفريقية تعتمد على الواردات والمعونات الغذائية، بعد أن كانت القارة السوداء مصدرًا صافيًا للغذاء خلال الفترة ما بين عامي 1966 و1970، حيث بلغ متوسط صادراتها الغذائية في ذلك الوقت حوالي 1.3 مليون طن سنويًّا.

هذا التطور المريب يجعل الجميع يقف أمام سؤال مهم: كيف تبدل حال قارة بأكملها من التصدير إلى الاستيراد ومن الوفرة الغذائية إلى المجاعات الجماعية في هذه الفترة القصيرة من الزمن؟

وفي كتابها “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث” شرحت الكاتبة الكندية “ناعومي كلاين” بالتفصيل كيف تستخدم القوى العالمية الأزمات والفوضى كذريعة لفرض تحولات خاطفة وتطبيق سياسات السوق الحرة التي تزيد الأثرياء ثراءً وتدفن الفقراء في الرمال أحياءً.

وتقول “كلاين”: طوال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، قامت المؤسسات المالية الغربية بإعطاء البلدان النامية كمًّا هائلاً من الديون مقابل أسعار فائدة منخفضة للغاية، وهو ما شجع هؤلاء على اقتراض المزيد.

وبحلول أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، ارتفعت أسعار الفائدة الأميركية إلى مستويات تصل إلى 21 %، مما دمر الاقتصادات الهشة للدول النامية التي أخذت ديوناً ضخمة. كان الأمر أشبه برصاصة أطلقت من واشنطن إلى قلب هذه البلدان لتتركها صريعة على الأرض.

والبلدان الأفريقية التي لم يكن لديها فرصة في الوفاء بمدفوعات الفائدة ناهيك عن الديون الفعلية دخلت في دوامة من الأزمات المالية. ومن هنا تبدأ قصة مجاعة أفريقيا.

ديون أذلت الهامات الشامخة

يُعزى تدهور الزراعة الأفريقية إلى حدٍّ كبير إلى السياسات التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد على البلدان الأفريقية التي لم تعد تملك من أمرها شيئًا بسبب الديون التي أثقلت كاهلها.

ولدى كل دولة من الدول المانحة لصندوق النقد والبنك الدولي تأثير على سياسة هاتين المؤسستين بقدر حجم اقتصاد كل منها، وهو ما يسمح لمجموعة قليلة بقيادة الولايات المتحدة بالسيطرة على عملية صنع القرار.

وانطلاقًا من ايديولوجية ما يسمى بالسوق الحرة، أرفق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي شروطًا لمساعداته للدول النامية التي كانت تطوق للتخلص من أعباء ديونها، تشمل العلامة البارزة التي تصاحب المؤسستين في أي بلد تطرقا أبوابه وهي “برامج التكيف الهيكلي”.

ووفقًا لهذه البرامج، يجب على الحكومات فرض حزمة من الإجراءات التقشفية وخصخصة بعض القطاعات. وفي أفريقيا كانت ترجمة هذه السياسات هي خفض الدعم الحكومي لصغار المزارعين وإلغاء التعريفات الجمركية مما يترك هؤلاء في العراء أمام الأسواق الخارجية.

وشملت الإجراءات أيضًا، بيع الأفارقة لمخزوناتهم الإستراتيجية من الأغذية والحبوب (والتي احتفظت بها هذه البلدان لكي تتجنب الجوع في أوقات الجفاف أو بوار المحاصيل) وزيادة صادراتهم من المحاصيل النقدية إلى الغرب، والسماح للمنتجات الأميركية الأوروبية بإغراق أسواقهم.

وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قالا في ذلك الوقت إن برامج إعادة الهيكلة ضرورية للسيطرة على الديون الأفريقية وتعزيز النمو الاقتصادي بالقارة، إلا أن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا: فالديون ارتفعت ودخلت هذه البلدان في فخ الركود.

وفي توثيق دقيق لعواقب برامج التكيف الهيكلي على القارة الأفريقية، وجدت دراسة أجرتها هيئة “مبادرة هاليفاكس” في عام 2004 أنها فرضت على 36 بلدًا من بين بلدان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الـ47 خلال الفترة ما بين عامي 1980 و1993.

ومنذ أن تم تطبيق هذه البرامج في الثمانينات ارتفعت ديون أفريقيا بأكثر من 500 %، وبلغت مدفوعات الديون التي أرسلتها الدول الأفريقية إلى الخزائن الغربية نحو 229 مليار دولار، أي أربعة أضعاف الديون الأصلية!

واليوم، في عام 2017 وتحت رعاية المؤسستين الدوليتين المرموقتين بلغت الديون الأفريقية 443 مليار دولار.

 

الطريق إلى المجاعات    

ما علاقة كل ذلك بالمجاعات؟ حسنًا، وجود ديون ضخمة تثقل كاهل الحكومات يدفعها دائمًا إلى تخصيص جزء غير قليل من إنفاقها لصالح خدمة هذه الديون، وذلك على حساب الاستثمار في مشاريع البنية التحتية الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم.

وتحتوي منطقة أفريقيا التي لا تزيد نسبة سكانها على 10 % من المجموع العالمي على أكثر من 45 % من جميع المصابين في العالم بفيروس نقص المناعة البشرية (وفقًا لتقديرات عام 2015). وفي ظل وضع كهذا، تنفق أفريقيا على مدفوعات الديون أربعة أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية.

ونفس الشيء حدث في القطاع الزراعي، حيث ضربت برامج التكيف الهيكلي الأمن الغذائي الأفريقي في مقتل، وتم تحويل السياسة الزراعية نحو إنتاج المحاصيل النقدية التي استخدمت إيراداتها لسداد الديون.

ومن المفارقات العجيبة، أنه في نفس الوقت الذي تمت فيه مطالبة الدول الأفريقية المغلوبة على أمرها بإلغاء الإعانات المقدمة إلى صغار المزارعين، واصلت الولايات المتحدة وأوروبا دعم قطاعاتها الزراعية بمليارات الدولارات، ليدفع صندوق النقد الدولي الفلاحين الأفارقة إلى التنافس في معركة خاسرة مع السلع الرخيصة المدعومة من الغرب.

وأغرقت السلع الغربية الرخيصة الأسواق الأفريقية.

أما الإعانات المحدودة التي سمح بها صندوق النقد الدولي للدول الأفريقية بتقديمها للقطاع الزراعي فكانت محصورة فقط على السلع التجارية المعدة للتصدير إلى أوروبا والولايات المتحدة.

الصومال نموذج الطريق إلى المجهول

بالنسبة للصومال كان تأثير سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على البلاد أكثر كارثية من أي حالة أفريقية أخرى، وذلك لأن تطبيقها تزامن مع التدخل العسكري الأميركي.

وفي كتابه “عولمة الفقر” يشير الاقتصادي الكندي “ميشيل تشوسودوسكي” إلى أنه على الرغم من حالات الجفاف المتكررة كان الاقتصاد الصومالي الذي يقوده صغار المزارعين ورعاة الماشية والأغنام مكتفيًا ذاتيًّا في مجال الغذاء خلال السبيعينات.

وقبل دخول صندوق النقد كانت الثروة الحيوانية للبلاد في أوج ازدهارها، لدرجة أنها شكلت وحدها 80 % من الصادرات الإجمالية للصومال خلال عام 1983. ولكن في إطار برامج التكيف الهيكلي تم خصخصة الخدمات البيطرية للماشية.

وحالت أنشطة الخصخصة دون حصول الرعاة في المناطق الريفية على الرعاية الصحية الحيوانية، وهي السياسات التي أدت في نهاية المطاف إلى تدمير القطاع الذي كان يعمل به أكثر من نصف السكان.

وبالنسبة للزراعة، لم يستطع صغار المزارعين الصمود كثيراً في وجه الواردات الرخيصة من القمح والأرز، وتم توجيه ما تبقى من الموارد الزراعية للبلاد لصالح السلع التصديرية التي تدر دخلاً يتم توجيهه لسداد الديون.

اليوم، ونحن في عام 2017، لم تتحسن ظروف الصومال، فلا تزال تعاني من الصراعات المسلحة وانعدم تقريبًا أمنها الغذئي، وتستمر الولايات المتحدة في التدخل في شؤونها دون استئذان بذريعة محاربة الإرهاب.

وعلى الرغم من أن السياسات الاقتصادية التي تم فرضها على الصومال في الثمانينات والتسعينات ليست هي المسؤولة فقط عن المجاعة الحالية في البلاد، ولكن بحسب “تشوسودوفسكي” لا يمكن بأي حال أن يتجاهل أي عاقل تأثير 10 سنوات قضتها الصومال بين أيدي طبيبها المزعوم (صندوق النقد) تم خلالها إرساء كل الظروف اللازمة لانتقال البلاد نحو التفكك الاقتصادي والفوضى الاجتماعية.

ملاوي .. الأغنية نفسها    

تعتبر حالة ملاوي واحدة من أوضح حالات الفشل المؤسسي لسياسات وبرامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

ففي أواخر التسعينات، قدمت الحكومة لمزارعي الكفاف حزمة إعانات تشمل بذورا وأسمدة مجانية، وهو ما أدى إلى تحقيق البلاد فائضًا في إنتاج الذرة.

لكن مع ظهور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومعهما سياسات التكيف الهيكلي تم تفكيك هذا البرنامج واضطرت الحكومة إلى بيع الجزء الأكبر من احتياطياتها من الحبوب من أجل خدمة ديونها.

وفي ظل هذا الوضع ما قام به صندوق النقد الدولي هو: تعليق المدفوعات التي تستلمها حكومة ملاوي وفق برنامج الصندوق والسبب الذي ساقه في تبريره لتلك الخطوة هو أن “القطاع شبه الحكومي يشكل خطرًا على التنفييذ الناجح للميزانية المقترحة من قبله للعام المالي 2002/2003”.

وفي دليل واضح على أن سياسات الصندوق هي المشكلة، قام رئيس جديد للبلاد في العام 2005 بالتخلي عن سياسات صندوق النقد والبنك الدولي وأعاد العمل ببرنامج دعم الأسمدة الذي ألغاه الصندوق، وهو ما مكن مليوني أسرة من شراء الأسمدة بثلث سعر التجزئة والبذور بسعر مخفض.

ونتيجة هذا التحول كانت حصادًا وفيرًا لعامين على التوالي، وفائضًا قدره مليون طن من محصول الذرة، وتحولت البلاد إلى مصدر للذرة إلى جيرانها في الجنوب الأفريقي.