العدد 6093
الجمعة 20 يونيو 2025
banner
اليابان والثقافة العميقة “Hidden Culture”
الجمعة 20 يونيو 2025

 تأخذنا الأسفار إلى عوالم أخرى غير التي نعيش فيها، نصادف فيها الذي نعهده أحيانا، وأيضًا الذي لا نألفه كثيرًا.. كما نصادف فيها أشياء نستطيع رؤيتها بالعين المجردة وأخرى لا نستطيع، وعلى الرغم من عدم قدرتنا على رؤيتها إلا أننا نجد أنفسنا نتلمسها ونشعر بها في سلوك الآخرين من سكان تلك البلاد.. ذلك الشيء المحسوس دون رؤيته جليًّا نطلق عليه “الثقافة الخفية” أو ما يعرف باللغة الإنجليزية بمصطلح Hidden Culture. 

 إذا تأملنا اللغة اليابانية وبحثنا فيها بدقة، سنجد فيها كثيرًا من التعبيرات التي تشير إلى مظاهر هذه الرؤية الحذرة المتشائمة، فنجد كثيرًا من العبارات والأمثال التي تعزّز فكرة التحضير والاستعداد بشكل مسبق، وتحث على الحذر والتريث وعدم المجازفة عند التعامل مع أمور الحياة واتخاذ القرارات المختلفة. فالشخصية اليابانية دائمًا تضع “الاحتمال الأسوأ”، كقاعدة لبناء تصورها في التعامل مع الأمور، لاسيما في الأمور المستقبلية، واضعة نصب العين دائمًا القاعدة السلوكية التي تعتمد عليها في اتخاذ قراراتها بشكل أساس في تعاملها مع مشاهد الحياة المختلفة: “الاستعداد والتحضير المسبق يجنبك الإصابة بالحزن والقلق”، وهذه القاعدة تنطلق من مبدأ فكري ولغوي يعزز المبدأ السلوكي، أي أنه يجب عليك أن تكون مستعدًّا دائمًا لتحمل كل النتائج التي يمكن أن تترتب عليها تصرفاتك وأفعالك المختلفة، واضعًا دائمًا نصب عينيك وفي المرتبة الأولى الاحتمال الأسوأ.

ومما أذكره في هذا الصدد تجربة واقعية حدثت لي في إحدى المحاضرات بالجامعة، فقد سألت إحدى الطالبات في محاضرة كنا نناقش فيها مفهوم الظروف الخارجة عن إرادة الفرد وقدرته وكيفية التعامل معها ومقدار المسؤولية الفردية المفترضة تجاهها، وكان سؤالي على النحو التالي: “هل الإصابة بالبرد أو الانفلونزا شيء خارج عن إرادة الفرد، أم شيء يدخل في حيّز المسؤولية الشخصية؟”.

قد تتبادر إلى ذهن القارئ بعض التساؤلات كالآتي: “وهل هذا سؤال؟” أو “وهل المرض مسؤولية شخصية؟”.

قبل أن نتطرّق إلى إجابة الطالبة اليابانية عن هذا السؤال، دعني أيها القارئ العزيز أجيبك أنا عنه: “نعم في بعض الأحيان وفي بعض المجتمعات”، قد تكون الإجابة مفاجئة لك، فالرؤية هنا في اليابان مختلفة عن مثيلاتها في مجتمعنا العربي أو باقي المجتمعات الأجنبية الأخرى. كما أن الاختلاف هنا جذري في مفهوم الاحتراس والاستعداد والتعامل مع الأمور، خصوصًا حين يتعلق هذا الأمر بشيء مثل المرض.

“مسؤولية شخصية”.. هكذا كانت إجابة الطالبة على سؤالي، “ذلك أن الشخص كان يستطيع أن يحتاط بشكل مسبق حتى لا تُنقل له العدوى من شخص آخر، كان عليه أن يضع الكمامة الطبية وأن يتجنب الأماكن المزدحمة وأن يطهر يديه وأن.. وأن..” على هذا النحو تتابعت الإجابات الصادمة، بالنسبة لي، من أفواه الطلاب لكنها كانت فريدة النوع في محتواها.
فالإجابة لم تكن مجرد إجابة فردية لطالبة واحدة فحسب، بل كانت معظم الإجابات على النهج نفسه، مؤكدة أن التصرف الوقائي والتحضير بشكل مسبق والاستعداد الحكيم خير من التواكل وتعليق المسؤولية على عاتق الظروف والأقدار الخارجة عن الإرادة. وللحديث بقية في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.


*أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة بجامعة طوكاي اليابانية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .