العدد 6093
الجمعة 20 يونيو 2025
banner
صفية لم تكن خيرا فقط بل كانت خيارا
الجمعة 20 يونيو 2025

لم تكن تعرفني حق المعرفة، ولم أكن أعرفها بما يكفي، لكنها غيرت شيئًا في داخلي.
لم يكن ذلك في حديث صحافي، ولا في ندوة فكرية، ولا صورة في صدر صحيفة...
بل بحقيبة أعمال أغلقتها بيدٍ واحدة، وتركت الأخرى مفتوحة للجميع.
صفية لم تكن اسماً يُكتب في السطر الأول من النعي، بل كانت سؤالًا يُطرح بعد كل خبر وفاة:
“هل عشتُ مثلك بما يكفي؟”
**
أرفض، كما دأبت صفية على الرفض أن أكنب مرثيتها، لأن أمثال صفية لا يمنحوننا لحظة رثاء.
من يرحل دون أن يصدر ضجيج الموت لا يُبكى عليه، بل يُروى عنه.
وها أنذا أروي.
أروي قصة امرأة رفضت أن تكتفي بأن تكون “ابنة كانو”،
بل أن تكون مشروعًا كاملاً باسمها.
**
من السابعة عشرة، لم تكتفِ بريشتها.
الريشة لم تكن تكفي.
حين ترى مريضًا لا يجد سريرًا،
أو امرأةً بيدٍ نحيلة تحمل خيطًا وتنتظر من يعلّمها كيف تصنع منه كرامتها،
تفهم أن الجمال وحده لا يكفي.
كان عليها أن تشتبك مع الحياة.
**
هل سمعت بجناحٍ يحمل اسم امرأة؟
نادر.
لكن صفية كانت نادرة.
جناح لكبار السن.
جناح لأورام الأطفال.
مراكز فنية، وحدات طبية، مساجد، مشاريع صغيرة، دعمٌ خفيّ لا يُذكر غالبًا في نشرات الأخبار.
لا لأنها أرادت البعد عن الضوء،
بل لأنها كانت الضوء ذاته.
**
صفية كانت تعرف أن المجد لا يُصنع من الأقوال.
وأن الكرم ليس فعلاً عابرًا.
الكرم عندها عادة، كالتنفس، لا يُبذَل، بل يُمارَس.
هي من تلك النساء اللواتي لا يحتجن أن يرفعن أصواتهن لتغيير العالم.
يكفي أن يمشين فيه.
**
أعرف أن كلمات كهذه قد تُقرأ كغيرها في مثل هذه المناسبات... مجرد إحدى المعلقات التي يكال فيها الفخر أو المديح.
لكن صفية لا تحتاج مدحًا.
بل حضورًا جديدًا لها في كل منّا.
لا نريد أن نقول: “كانت صفية”،
بل أن نسأل: “ماذا لو عشنا مثلها؟”
هل نملك الشجاعة لنترك خلفنا أثرًا صامتًا؟
أن نبني دون أن نُزايد؟
أن نمنح دون أن نُعلن؟
أن نصنع لوحة من امرأة؟
**
لم تكن صفية مشروعًا خيريًا.
بل كانت فلسفة عمل.
وأكثر من ذلك... نظام حياة...
عقلًا ينظّم، قلبًا يعطي، وضميرًا لا يساوم.
الفن عندها ليس للعرض.
والخير ليس للتباهي.
والمبادرة ليست للاستهلاك.
هي آمنت أن الإبداع لا يُقاس بما تنتجه،
بل بما تُحرّكه.
**
أعرف أنها لم تكن تسعى ليُكتب عنها.
لكنني لم أستطع أن أتمالك نفسي من أكتب عنها
لذا لا يمكننا أن نكتب المستقبل، دون أن نبدأ من اسمها.
كل امرأة تخاف أن تبدأ،
كل فنان يخشى أن يُرفض،
كل صاحب فكرة بلا دعم،
كل عجوز يُترك وحيدًا،
كل طفل مريض ينتظر،
كل حرفة لم تجد من يمسك بها...
كل هؤلاء مرّوا من طريق صفية،
أو مرّت هي بهم.
**
لا نريد تمثالًا لصفية،
ولا متحفًا باسمها،
بل نريد عدواها.
نريد أن تنتقل “روح صفية” بين النساء،
بين المبادرات،
بين أركان المجتمع الخافتة التي لا يراها أحد.
صفية كانت عدوى إيجابية،
انتشرت على مدى عقود،
دون أن تصرخ.
دون أن تفرض نفسها.
**
صفية لم تكن خيرًا فقط،
بل كانت خيارًا.
خيارًا للنساء أن يكنّ أكثر من أدوارهن الموروثة،
خيارًا للفن أن يكون له وظيفة اجتماعية،
خيارًا للكرم أن يُمارَس بلا استعراض.
**
هل انتهت صفية؟
سؤال خاطئ.
صفية ليست فعلًا في الماضي،
بل زمن مستمر.
رحلت نعم،
لكن في كل بيت بُني من عملها،
كل لوحة حملت شغفها،
كل امرأة دعمتها لتقف،
كل طفل ابتسم بعد شفاء...
صفية تعيش.
**
وأنتِ، يا من تقرئين الآن،
لا تبكي صفية.
بل ابدئي من حيث توقفت.
صفية لم تكن حياةً تُحكى،
بل كانت خطة عمل.
تُنفّذ.

*خبير إعلامي

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .