العدد 5865
الإثنين 04 نوفمبر 2024
banner
نموذج اقتصادي لتحقيق الاستدامة والتنمية المحلية جعفر حمزة
جعفر حمزة
الشراكة المجتمعية المُنتِجَة مع المصانع الكبرى في البحرين
الإثنين 04 نوفمبر 2024

كنتُ في زيارة لشركة الخليج لصناعة البتروكيماويات GPIC، وما لفت انتباهي في الشركة اهتمامها الواضح بالطبيعة، سواء التشجير أو الحياة البرية، إذ لمحتُ يافطة في إشارة لوجود ما يشبه محمية للطيور!

هذا فضلاً عن مشاركاتها المجتمعية والمهتمة بموضوع البيئة.

وسمعتُ الكثير عن شركة نفط البحرين Bapco والمهتمة أيضاً بزراعة أشجار القرم في خليج توبلي، وتنظيف السواحل، إضافة لدعمها لكثير من الجمعيات بالمناطق المحيطة بالمصنع.

وهنا تبادر في ذهني السؤال التالي:

كيف يمكن صياغة شراكة مجتمعية تتسم بالاستدامة بين المصانع والبيئة والمجتمع بالبحرين؟

شراكة تتمتع بالتكاملية في الإدارة والإنتاج والابتكار للوصول إلى استدامة فاعلة حقيقية.

فهذه الثلاثية مرتكز مهم لأي دولة تريد النهوض والتقدم، فمن خلال المصانع تكون قوة الاعتماد على الذات والتصدير ورفد خزانة الدولة، وبالتالي رفع مستوى المعيشة للمواطنين، فضلاً عن بناء سمعة الدولة على مستوى المنطقة والعالم.

مثال على ذلك شركة ألمنيوم البحرين ALBA، وما تحققه من تقدم في جودة المنتجات وحضور باهر على مستوى العالم.

وعند الحديث عن البيئة، فلا بد من ضمان رئة قوية وصحية في البلد، من خلال توفير رقعة زراعية تعمل على التوازن بين مخرجات المصانع من أبخرة وغازات، وإن كان العمل على قدم وساق واضح في كثير من المصانع من المحافظة على نسبة الانبعاثات، إلا أن الغطاء الأخضر سيشكل خير معين على إكمال المهمة بنجاح وبطريقة مستدامة.
وأما المجتمع، فهو الأساس في رأس ماله البشري وتفاعله الحيوي بل هو المايسترو في صناعة السيمفونية بين الصناعة والبيئة.
ومن خلال التصور الموضوع في هذه المقالة يكون العمل على رسم مبادرة لعلاقة ثلاثية تتسم بالتالي:
1. الاستدامة 
2. الفاعلية 
3. الدعم المتبادل والمنفعة المشتركة
وذلك بين المصانع الكبرى والبيئة والمجتمع.

 

حيث تهدف المبادرة إلى تعزيز الاقتصاد الدائري بين المصانع والمجتمع والبيئة، وذلك عبر المحاور التالية:

1. علاقة المصنع بالمجتمع:

يكون تركيز العلاقة في مراحلها الأولى على المجتمعات المحلية المحيطة بالمصانع الكبرى بالبحرين بداية، وذلك بسبب قربها والأثر الذي تركته المصانع من قبل أو تُحدثه في المستقبل. حيث أن أول المتأثرين ستكون المناطق القريبة من المصانع، وهذا يُحتسب ضمن تحمل الضرر، ويسمونها “العدالة البيئية” Environmental Justice أو “مناطق التضحية” Sacrifice Zones

وهي مناطق يتم فيها توجيه أنشطة صناعية قد يكون بها ضرر مباشر أو غير مباشر مع عامل الزمن، وتُعطى فيها المجتمعات القريبة أولوية في التوظيف والرعاية الصحية والتعويض في حال حدوث أي أضرار.

وما يتم تقديمه هنا من تصور ليس من قبيل مقايضة الصحة بالمشاريع، وإنما تصور معايشة ذات منفعة للطرفين، مع المحافظة على نسبة الانبعاثات والتي تعمل المصانع الكبرى عليها بشكل جاد، ويمكن الاطلاع على آخر التحديثات ونتائج ما وصلت له مملكة البحرين في هذا المجال من خلال مؤشر الأداء البيئي EPI Environmental Performance Index، حيث حصلت البحرين على درجة إجمالية قدرها 42، مما وضعها في المرتبة 90 عالمياً من بين 180 دولة تم تقييمها.

ومن نقاط القوة في ذلك المجال تحقيق مملكة البحرين درجة عالية في ادارة النفايات الصلبة، وأما نقاط الضعف فالبحرين تواجه تحديات في تحسين جودة الهواء، وقد سجلت درجات منخفضة في هذا الجانب حسب ما ذكره التقرير.

وتظهر نتائج مؤشر الأداء البيئي EPI  أن البحرين قد أحرزت تقدمًا في بعض المجالات البيئية، إلا أن هناك فرصًا للتحسين في جوانب أخرى مثل جودة الهواء والتغير المناخي. يمكن أن تكون هذه النتائج دافعًا لتعزيز السياسات البيئية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة في المستقبل.

المصدر: https://epi.yale.edu/country/2024/BHR

 

ما الحلول العملية الممكنة لتقديم مشاريع ذات استدامة بين المصانع والمجتمعات المحيطة؟

لتقديم حلول عملية وذات نفع متبادل ولتعزيز تلك العلاقة الصحية بين المصنع والمجتمع، هناك عدة أمور يمكن التعايش بينهما بطريقة الربح للطرفين Win Win، وهي:

أولاً: تأسيس شركات داعمة للمصنع في تلك المجتمعات المحيطة بالمصانع، والتي تتولى ادارة المخلفات الصناعية Industrial Waste management من جهة وتوفير بعض المواد التموينية أو الصناعية البسيطة للمصانع Supply materials and basic industrial materials.
والهدف هو استدامة العلاقة النفعية بين الطرفين، وعملية التأسيس تكون عبر 3 محاور أساسية، وهي:
1.    التمويل للشركة، بحيث يساهم المصنع بالنسبة الأكبر في التمويل، واعتبار تلك الشركة إحدى الجهات التابعة له. وبعد فترة يمكن طرح فرصة للمستثمرين في المناطق المحيطة بالمصنع بشراء حصص من الشركة، لتكون هناك مشاركة مالية فيما بعد بين المصنع والمستثمرين المحليين.
2.    التدريب وتطوير المهارات، يكون بالتعاون المشترك بين المصنع وتمكين، بتخصيص ميزانية لتدريب وتأهيل أهالي المنطقة للعمل بهذه الشركة التابعة للمصنع في مجالي: تدوير المخلفات الصناعية وتوفير المواد التموينية والصناعية البسيطة للمصنع في مرحلتيه الأولى والثانية، بحيث يكبر نطاق عمل الشركة لتقدم خدماتها لجهات أخرى فيما بعد محلياً وإقليمياً.
3.    يكون محور عمل هذه الشركة في خطين هما: 
3.1    تدوير المخلفات Waste Recycling 
توفير بعض المواد التموينية و المواد الأساسية للمصنع     Supply Chain Management

ويمكن الاستيراد بداية مع خطة نقل المعرفة Knowledge transfer حتى تكون الشركة معتمدة على ذاتها في توفير تلك المواد، وبهذا تقلل المصاريف على المصنع في المنظور المتوسط.
 

 

٢. علاقة المصنع بالبيئة:

كما ذكرنا في تجربة شركة  GPICوشركة  Bapcoفمن الجميل تعميم تلك التجربة على بقية المصانع وبطاقات متنوعة ومختلفة، تتناسب مع كل مصنع ومساحته وطريقته في معالجة الأمر.

من ضمنها التشجير وتوسيع الرقعة الخضراء داخل بعض المساحات المفتوحة في المصنع، وعندما يكون هناك توسع للمصنع، ممكن نقل تلك المساحات الخضراء من أشجار ونخيل لمناطق أخرى، إما داخل المصنع أو المناطق المحيطة به، بالتالي يكون هناك إعادة استخدام لذلك التشجير وبشكل عملي ومستديم دون توقف.

ومن بين الممارسات الممكنة استخدام التقنيات الحديثة في ترشيح الهواء وقياس الأبخرة والغازات المنبعثة من المصنع، وهي موجودة بالفعل حالياً لدى المصانع الكبرى بالبحرين، والحديث عن مواكبة آخر التقنيات بهذا الجانب، وربما عملية التصنيع بالتجميع كمرحلة أولى وتصنيعها بشكل كامل كمرحلة ثانية.

٣. علاقة المجتمع بالبيئة:

وذلك يتمثل بشكل أساسي في تلك الشركة الوليدة بين المصنع والمجتمع، حيث تتكفل عبر تعاونها مع المصنع في تشجير المنطقة الفاصلة بين المصنع والمجتمع، وذلك لزيادة نسبة تنظيف الهواء من انبعاثات المصنع، إلى جانب الاستفادة من تلك النباتات لتحويلها لمشروع ثانوي للبيع، فعند زراعة النباتات عبر المياه الرمادية يمكن الاستفادة منها لبيعها كأشجار زينة، فضلاً عن بعض النباتات الأخرى كالنباتات العصارية مثل الصبار أو النباتات المعمرة مثل اللافندر وغيرها من النباتات التي تتناسب مع جو البحرين.

وهناك العديد من الأمور المشتركة بين المصنع والمجتمع يمكن العمل عليها لرفد الجانب البيئي بشكل مستدام، من بينها، اعادة استخدام المياه الرمادية Grey Water من المصنع والمجتمع لري تلك المساحات الخضراء.

ونتيجة لتلك العلاقة الصحية بين المصنع والمجتمع وما بينهما البيئة، ستكون المخرجات كالتالي:

تحقيق العدالة البيئية Achieving Environmental Justice : وذلك عبر تحسين الظروف المعيشية للمجتمعات القريبة من تلك المصانع الكبرى من خلال مبادرات متكاملة تتضمن فرص عمل ورعاية صحية مع ضمان إجراءات فعالة لتقليل الآثار البيئية للمصنع وحماية صحة المجتمع المحلي، وذلك عبر مبادرة الشركة المساهمة كما ذكرنا مسبقاً.

اقتصاد دائري مُستدام Sustainable Circular Economy: :ويكون ذلك عبر تعزيز مفهوم الاقتصاد الدائري وبشكل ملموس عبر الشركة المساهمة، والتي تعمل على إعادة تدوير المخلفات الصناعية وغيرها المتعلقة بالمصانع الكبرى، وتوفير المواد الأساسية، مما يقلل من النفايات وتحسين كفاءة الموارد. وممكن تقديم بعض الأمثلة على هذه النقطة، وذلك عبر تدوير التالي:

أولاً: البلاستيك، ويكون مصدرها مخلفات صناعية من المصنع، إضافة إلى المخلفات البلاستيكية من المناطق المحيطة أيضاً. إذ يمكن مع توفير الأجهزة المتخصصة للشركة المساهمة، تحويل تلك المخلفات لمنتجات يمكن توفيرها بجودة مناسبة للسوق، من قبيل الكراسي والطاولات وأدوات الزينة، فضلاً عن قائمة طويلة يمكن تصنيعها من تدوير البلاستيك، وطرحها في السوق وهي ذات استخدام آمن ومتناسب مع الاحتياجات وفقاً لفهم السوق.

             ثانياً: المخلفات العضوية، والتي تكون من مخلفات الطعام، ومصدرها من موظفي المصنع وقاطني المناطق القريبة      

             منه. حيث يمكن تحليلها إلى سماد عضوي يمكن الاستفادة منه في التشجير وتعزيز الاقتصاد الدائري.

             ثالثاً: الورق، يمكن إعادة استخدام الورق لتقليل النفايات وتعزيز الاستدامة، حيث يمكن إعادة التدوير لصناعة

             ورق جديد، إضافة إلى مواد للتعبئة والتغليف، كما يمكن صنع سماد عضوي من الورق بعد إزالة الأحبار منه،   

             وغيرها من التطبيقات الممكنة للورق.

             رابعاً: المطاط: ومجاله متعدد وصناعاته كثيرة، ومصدره طبعاً الإطارات من المجتمعات المحيطة والتي ستزود      

             الشركة المساهمة بها، بدلاً من إثقال الحكومة بميزانيات للتخلص منها، فضلاً عن الأضرار البيئية، حيث يمكن     

             إعادة تدويرها لما فيه مصلحة للشركاء الثلاثة: المصنع والمجتمع والبيئة. وذلك عبر بعض التطبيقات، منها:

1. إعادة تدوير المطاط لعمل منتجات جديدة، من بينها الأحذية، والحصائر ومواد العزل والأنابيب المطاطية وغيرها.

2. تحويل الإطارات القديمة إلى حُبيبات مطاطية تستخدم كقاعدة مرنة وآمنة للملاعب، مما يقلل من إصابات الأطفال ويزيد من عمر الملاعب.

3. يمكن إضافة المطاط المعاد تدويره للأسفلت لصناعة الأسفلت المطاطي، ويتميز بأنه أكثر متانة وفعالية في امتصاص الضوضاء، ويُستخدم عادة في الطرق السريعة والمطارات.

4. استخدام الإطارات القديمة بعد تدويرها كمواد عازلة للصوت، ويشكل قيمة مضافة لمشاريع البناء، حيث يتم استخدامها كمادة حشو في الجدران العازلة للضوضاء في المباني والمصانع.

5. استخدام الإطارات القديمة كأحواض زراعة للنباتات والأشجار، مما يوفر بيئة جيدة للنمو دون الحاجة لأوان زراعية مكلفة.

تحسين جودة الهواء والبيئة Improving air and environmental quality مع زيادة الغطاء الأخضر داخل المصانع وخارجه وفي المناطق القريبة من تلك المصانع، سيُساهم في تحسين جودة الهواء وتقليل الانبعاثات من المصانع.

تطوير المهارات المحلية Developing local skills: فمن خلال توفير التدريب وتطوير المهارات بالتعاون بين المصانع وتمكين، سيتم تعزيز قدرات أبناء المجتمع المحلي ويرفع من مستوى كفاءتهم في أحد أهم الصناعات المستقبلية وهي ادارة المخلفات والاقتصاد الدائري.

تحفيز الابتكار Encouraging innovation: وذلك عندما يكون التركيز على ادارة النفايات وطرق الاستفادة منها وتعزيز الإنتاج المحلي منها، مما يفتح المجال للابتكار في مجال واسع وبه الكثير من الفرص.

تطوير المشاريع الزراعية Developing agricultural projects: وخصوصاً تلك المعتمدة على المياه الرمادية، والتي تشكل هذه المياه هدراً يومياً يمكن الاستفادة منها من المصنع والمجتمعات المحيطة. وتكون المُخرجات عبارة عن منتجات نباتية يمكن بيعها، مثل نباتات الزينة وغيرها.

زيادة الوعي البيئي Raising environmental awareness: وذلك من خلال الأنشطة المتنوعة والزيارات الميدانية للمصنع والشركة المساهمة، ومشاهدة أمثلة عملية على نتاج تلك الشركة في مجال التشجير وادارة المخلفات.

شراكة متينة بين الأطراف الثلاثة A strong partnership between the three parties: وذلك عبر التعاون الوثيق بين المصانع الكبرى بالبحرين والمجتمعات المحيطة بها والبيئة، وما يحققه ذلك من منفعة متبادلة اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً.

تحسين سمعة المصانع Enhancing the reputation of factories: من خلال هذه المبادرات ذات المنفعة المتبادلة يكون تعزيز لسمعة المصانع عبر التزامات بالممارسات البيئية والاجتماعية، مما يزيد ثقة المجتمع والعملاء بها. ويمكن ضرب مثال قد يكون بعيداً عن المصانع كونه قريب أكثر إلى الناس  B2C، وهي شركة Patagonia والتي تتميز بالتركيز العميق على الاستدامة البيئية والمسؤولية الاجتماعية، مما جعلها رمزاً للشركات التي تلتزم بمبادئ الأخلاقيات في الأعمال وتحقق أرباحاً عالية. يمكن قراءة المزيد عنها هنا:

https://www.patagonia.com/home/
https://www.forbes.com/sites/dougsundheim/2023/12/12/how-patagonia-became-the-most-reputable-brand-in-the-united-states/

الخاتمة

إن فكرة الشراكة المجتمعية بين المصانع الكبرى في البحرين والمجتمعات المحيطة ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي خطوة نحو تأسيس مجتمع واعٍ ومستدام. من خلال الاستفادة من الموارد المتاحة وإعادة تدوير المخلفات، وتدريب الكوادر البشرية المحلية، إلى جانب الاهتمام بالجانب البيئي، وكل ذلك عبر منفعة متبادلة بين ثلاثية المصنع والمجتمع والبيئة.

ويمكن الاطلاع على تجارب خليجية قد تكون مقاربة لما تم تقديمه في هذا المقال، من ضمنها: شركة الظاهرة الدولية للتنمية والاستثمار بسلطنة عمان.

إن ما يمكن القيام به هو الانتقال من مفهوم الدولة الريعية والتي يُلاحظ وجوده في كثير من المصانع المساهمة للمجتمع، لننتقل لمفهوم الدولة الإنتاجية.

يمكن لهذه الشراكة أن تُصبح نموذجاً يُحتذى به في تحقيق التوازن بين التنمية الصناعية والاستدامة البيئية والمسؤولية المجتمعية مع تقديم نموذج عمل مستدام وفاعل.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .