منذ زمن بعيد، اهتم باباوات روما، أحبار الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بالقضايا المجتمعية التي تهم الإنسان، بغض النظر عن جنسه أو عرقه، لونه أو دينه ومذهبه الإيماني، فقط الإنسان بشكل مجرد، انطلاقا من أنه القضية، والحل في ذات الوقت. يمكن الحديث عن العشرات من تلك الوثائق، وفي مقدمها وثيقة “الأشياء الحديثة”، أو Rerum novarum والتي تناولت شأن العمال وحقوقهم، لاسيما أن إرهاصات كتابات فريدرك إنجلز، ورأس مال ماركس، سوف يقودان العالم عما قليل، لجهة الطروحات والشروحات الشيوعية، تلك التي قزمت من شأن الفرد لحساب الجماعة، وقد أثبتت فشلها في نهاية الأمر.
الأسبوع الفائت صدر عن الكرسي الرسولي في الفاتيكان وثيقة جديدة عنوانها، “الكرامة اللانهائية” أو Dignitas infinita، تلك التي احتاجت قرابة السنوات الخمس من البحث والدرس المعمقين، وتتماس في مضمونها مع قضايا متنوعة مثل الحرب والفقر، العنف ضد المهاجرين، والمعاملة القاسية للمرأة في بعض المجتمعات الإنسانية، ناهيك عن موضوعات حرجة وملحة من عينة الإجهاض والأمومة البديلة، ولا تغفل أزمة القتل الرحيم، تلك القضية التي تشكل عقبة إنسانوية في الغرب المعاصر اليوم، وصولا إلى أزمات نظرية الجندر، ثم العنف الرقمي، والذي لا ينفك يتفشى مع موجات الذكاء الاصطناعي القائمة والقادمة. يعن لنا التساؤل: لماذا هذه الوثيقة في هذا التوقيت تحديدا؟ الجواب يمكن أن يأخذنا في نواح متعددة ومتشعبة، والبداية غالب الظن من الإخفاق المزدوج للنظرية الشيوعية التي مسخت الفرد وجعلته ترسا من تروس الإنتاج، وصولا إلى الرأسمالية التي سلعت البشر، وجعلت منهم عبيدا في دائرة متوحشة، والوصف للبابا الراحل سعيد الذكر يوحنا بولس الثاني. من هنا تقف المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، وقفة حق وعدل معلنة المساواة في الكرامة بين جميع البشر، فهي حاضرة في طفل لم يولد بعد، وفي شخص إنسان فاقد الوعي، أو رجل مسن متألم، فكرامة كل منهم قائمة بغض النظر عن ظروف حياتهم أو صفاتهم.
* كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية