هل دخلت العلاقات الأوروبية – الروسية، مرحلة من الأزمة الخطيرة، لاسيما بعد حدثين كبيرين ومثيرين إلى حد الخوف الأيام الماضية، واحد جاء من ألمانيا، والآخر من فرنسا؟ وهل تلك الأحداث أكدت ضياع فرصة تاريخية حلم بها أحد أهم قادة أوروبا في منتصف القرن العشرين، وكان لها أن تخلق واقعا جيواستراتيجيا جديدا ومغايرا لما جرت به المقادير طوال القرون السابقة؟
الشاهد أنه قبل نحو 350 مليون سنة، تشكلت كتلة جغرافية من 54 مليون كيلومتر مربع، كانت تشمل قارتي أوروبا وآسيا. بعد تلك الملايين الهائلة من السنين، عادت فكرة الأوراسيا لتطل برأسها من جديد على القارتين الجارتين، من منظور جغرافي وديموغرافي. كان الفضل في الأمر للرئيس الفرنسي التاريخي شارل ديغول، بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تطلع لوحدة تجمع الشعوب الأوروبية والآسيوية، من المحيط الأطلسي غربا، إلى جبال الأورال شرقا. لم يكن ديجول عدوا للولايات المتحدة الأميركية، سيما أنها من ساعدت أوروبا على الخلاص من النازية، غير أنه وفي الوقت عينه، كان شديد الاهتمام بنشوء وارتقاء كيان سياسي أوروبي آسيوي عملاق، يمنع تدهور الأوضاع والدخول في حرب وتناحر من جديد، سيما أن خبرة الحرب العالمية الثانية كانت قد طبّعت المنطقة بذكريات وألوان حزينة. هل يمكن اليوم وبعد عامين من الحرب الروسية – الأوكرانية، القطع بأن حلم زعيم الجمهورية الفرنسية الخامسة قد تبخر؟
غالب الظن أن هذا ما جرت به المقادير، خصوصا في ضوء السعي الأوروبي الحثيث وراء العم سام، والتوجه إلى معاداة روسيا – بوتين. الحدث الأول الذي طفا على سطح الأحداث في الأيام الأخيرة، هو ذاك المتعلق بالتسجيل الصوتي لضباط من الجيش الألماني، يخططون سرا لعملية عسكرية خطيرة وتتسبب في خسائر فادحة لموسكو. التسجيلات التي حصلت عليها الاستخبارات الروسية، تظهر حديثا يدور حول استهداف جسر القرم الشهير، أكبر جسر في أوروبا وآسيا، عبر صواريخ "توروس" الألمانية الفتاكة، والصعوبات التي يمكن أن تواجههم حال الرغبة في تدمير الجسر دفعة واحدة، ومن غير أن يعلم الروس أن الألمان هم من يقفون وراء هذه العملية.
لم يعد يهم التساؤل كيف تحصل الروس على التسجيل، فيما بات الأهم هو شكل العلاقات الألمانية – الروسية بعد الحدث، سيما أن الروس طالبوا المستشار الألماني بتقديم تفسيرات لما جرى. قصة التسجيل المسرب، أعادت من الماضي صورا وأشباحا لمحاولة النازي غزو روسيا خلال الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بموقعة ستالينغراد الشهيرة.
تحدث الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، والذي يشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي، بلغة قاسية تجاه الألمان، لغة كادت تظهر أن المواجهة العسكرية قادمة لا محالة مرة جديدة، بين الجانبين، وأن زمن النازية الجديدة حان أوان مواجهته.
الحدث أو المشهد الثاني، وقف وراءه الرئيس الفرنسي، والذي تكلم مؤخرا عن حتمية تدخل الناتو بريا في أوكرانيا لمواجهة جحافل الروس، بل أكثر من ذلك بدا أنه يقود فرنسا بنوع خاص إلى شكل من أشكال مجابهة بوتين وقواته، حال فكرت الجيوش الروسية في غزو أوديسا وكييف.
يعرف القاصي والداني أنه ما من قدرة لفرنسا بمفردها على مواجهة روسيا، بريا أو بحريا أو جويا، وأنه لو شاءت القوات البرية الروسية الزحف لجهة أوروبا، لتسببت في خسائر فادحة للأوروبيين.
يتساءل المراقبون: "هل كانت الصين في فكر شارل ديجول حين رسم خطوط الأوراسية"؟
ربما في ذلك الوقت كانت الصين تعاني من حالة من التخلف والرجعية، أما اليوم فقد باتت رقما صعبا في المعادلة الدولية، ناهيك عن تحالفاتها، حتى ولو كانت براغماتية، مع الروس لمواجهة مشروعات الهيمنة الأميركية حول العالم.
هل خسر الأوروبيون فرصة ذهبية لأجيالهم القادمة؟ سيكون من حسن طالعهم أن يتوقف المشهد عند هذا الحد، وألا يتطور إلى معارك عسكرية لا تبقي ولا تذر.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية