العدد 5576
السبت 20 يناير 2024
banner
رجلُ الجغرافيا الضيقة
السبت 20 يناير 2024

بما احتوته، هي أشبه – وفق الأديب الأردني الراحل خليل قنديل - بالمساحة المُتاحة للدجاج اللاحم في المزارع، حيث يتعاقب عليها ضوء النهار وظلام الليل، وهي داجنة في تكاثرها اليومي حتى أقنعت نفسها بأنها عاشت الزمن الأطول، على غرار بضعة شخوص حين يَحلّوا أو يرتحِلُوا في دهاليز أسفارهم، ثمّ يعودوا لمسقط ما وُلِدُوا فيه، ومكان ما أكملوا تعليمهم عنده، وموقع ما استحصلوا عليه من وظيفة، ومنزل ما استقرّوا فيه للراحة؛ أنّ مساحة جُلّ ذلك لا تتعدى بضعة كيلومترات مربعة تفيض أجمعها بضحالة ثقافتهم وفقر خُلُقهم بعدما اقترفوا إثم مغادرة الاشتباك المرموق مع مختلفي الرأي عنهم، وفضّلوا إنهاض العراك الذميم معهم، ما أورثهم التخندق المقيت والتأمل المُعوج في شُح الفكر ولغو الكلام وتقزيم الرُؤى. 
في وقتنا الحاضر، وجود هذه الشخصيات بين ظهرانينا - التي تبث أفكارها المغلوطة في كل الأمكنة بما فيها المواقع الافتراضية كمجموعات الواتس أو غيرها دون أنْ يتراجعوا رُغم خطئهم - عُدّ من الأمراض المُجتمعية المُستعصى علاجها لِمَنْ ابْتلوا بتوصيفاتها التي بَدَتْ مظاهرها واضحة – بالرغم من تعرّضهم للخيبات المُتواليات – حيث تلحظهم ينهضون من بين الحاضرين بـ “شَطَحَاتِهم” التي يطرحون فيها مسائلهم المثيرة، فيُطنبوا في امتداح أنفسهم وإعلاء مقامهم، والتي يُوثّقوا فيها أدق تفاصيل تحرّكات يومهم في رِياء واضح ومُباهاة فارغة، تجاوزوا فيها قواعد الأدب الأصيل ومرتكزات الخلق الحسن، ليدفعوا بسوداوية القلب وسوء النوايا إلى شائن الأفعال بين الأخلّاء وتنفيرهم عن بعضهم البعض تارة، وتلّبُس عباءة التقوى الفارغة واصطباغ مظهر الإيمان الخدّاع تارة أخرى.
نافلة:
بات من الأجدر مجتمعياً “اقتحام” جغرافيا هذه الشخوص، ما سنحت الفرصة لذلك، بعد استشرائها آفة تصنع بشرورها العداوة والقطيعة بين أصناف الخلائق حتى على مستوى العائلة الواحدة نتيجة حدّة خصومتهم التي تغصّ بها أنفسهم وتنحدر بها همّتهم التي تولدّت عنها مشاعر عشق الانتقام؛ ما يستدعي “قمعهم” بالحلم وكظم الغيض ومجاهدتهم على أنفسهم لاستبدال ذمَّهم مدحاً وتكبُّرهم تواضعاً، وصولاً لتجنيبهم ضيق الجغرافيا الجاثمة بفكرها ومسلكها بعدما أورثتهم داء منبوذاً لا يُطاق.
* كاتب وأكاديمي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .