العدد 5541
السبت 16 ديسمبر 2023
banner
الصهيونية والإرهاب الفكري الأميركي
السبت 16 ديسمبر 2023

ثمة ثلاث مسائل تسترعي الانتباه فيما يتعلق بمواقف الولايات المتحدة الأخيرة تجاه مجازر غزة المستمرة.
المسألة الأولى: وتتعلق بالموقف المخزي الذي وقفته واشنطن باستخدامها الفيتو في مجلس الأمن لإجهاض القرار المطالب بوقف فوري لإطلاق النار في القطاع، بالرغم من أن القرار تمت صياغته بطريقة متوازنة ليشمل الإفراج عن رهائن حماس وتمكين دخول المساعدات، ما ساعد على موافقة الغالبية العظمى من أعضاء المجلس على القرار، ومع ذلك لم تكترث واشنطن بهذه الغالبية العظمى المؤيدة للقرار في المجلس، ولا بالتنديد العالمي لهذا الفيتو المتجرد من كل إنسانية. على أن اللافت بأن من لوّح بالفيتو هو روبرت وود، نائب السفيرة الأميركية ليندا توماس غرينيفيلدا، وكلاهما - السفيرة ونائبها - من أُصول أفريقية، ومثلهما وزير الدفاع لوين أوستن. وبطبيعة الحال لم يتم تعيينهم اعتباطياً، بل قُصد به إظهار الدولة الأميركية - ولو ديكوريا - في هذا المحفل الأُممي بمظهر الحريصة على تمثيل السود الذين يعانون الاضطهاد والتمييز منذ تأسيس الولايات المتحدة، ولو طُلب من أي أحد منهم نفي وجود هذا الاضطهاد والتمييز، لما تردد عن فعل ذلك، إذ إن الضمير الإنساني لا لون أو عرق له من حيث تحليه بالشرف أو تميزه بالدناءة.
المسألة الثانية: وتتمثل في فضيحة استدعاء لجنة مختصة في مجلس النواب الأميركي لرئيسات ثلاث من أكبر وأعرق الجامعات الأميركية، وهن كل من: كلودين غاي رئيسة جامعة هارفارد، وليز ماجيل رئيسة جامعة بنسلفانيا، وسالي كورنبلوث رئيسة معهد ماساتشو ستس للتكنولوجيا، وذلك على خلفية الاحتجاجات السلمية التي عبّر عنها طلبة هذه الجامعات ضد مذابح القطاع، وجرى استجوابهن من قِبل رئيسة اللجنة النائبة الجمهورية فيرجينيا فوكس بشكل فظ لدفعهن للاعتراف بأن تلك الاحتجاجات تمثل معاداة للسامية ومؤيدة للإبادة الجماعية لليهود. وكانت تلك الاستجوابات أشبه بالاستجوابات البوليسية، إذ كانت فوكس تُضيّق على كل مستجوَبة للإجابة إما بـ "نعم" أو بـ "لا"، ولا تمنح أياً منهن فرصة لتوضيح رأيها، إذا ما جاء هذا الرأي متضمناً إدانة "الهولوكوست" ومجازر غزة على السواء.
ومما لا شك فيه أن تلكما الفضيحتين - الفيتو واستجواب رئيسات الجامعات الثلاث - ليستا سوى شكل من أشكال الإرهاب الفكري لحرية الرأي والضمير، وهذا ما لا يليق البتة بدولة تفتخر بدستورها الديمقراطي والقيم والحقوق الإنسانية التي ما برحت تصدع رؤوس العالم بالتشدق بها.
المسألة الثالثة: وتتعلق بتبجيل الآيديولوجيا الصهيونية، والتي تزايدت بشكل علني مهووس في ظل إدارة الرئيس الحالي، فعلاوة على حرص الأخير مراراً وتكراراً على تباهيه الاستفزازي بأنه "صهيوني" وأنه لو لم تُوجد إسرائيل لعملنا على إقامتها، فقد بلغ الأمر حداً من الاستخفاف بعقول الفكر الإنساني العالمي الحر ومواثيق القيم والمبادئ الإنسانية أن أصدر مجلس النواب الأميركي مؤخراً قراراً يقضي بأن معاداة الآيديولوجيا الصهيونية تتساوى مع معاداة السامية! والحال أن هذا القرار لم يأتِ مصادفة في توقيته، بل تحت تأثير الهلع الإسرائيلي الأميركي من الاحتجاجات الشعبية العارمة داخل أميركا والعالم ضد مذابح غزة، وما تلحقه من ضرر لسمعة إسرائيل وآيديولوجيتها الصهيونية، في حين تتناسى واشنطن قرار الأُمم المتحدة الذي صدر في 1975 والذي يقضي حرفياً بـ "ان الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وحيث طالب القرار أيضاً دول العالم أجمع بمكافحة الآيديولوجيا الصهيونية باعتبارها - حسب نص القرار - تشكل خطراً على السلم والأمن العالمي.
صحيح أن هذا القرار تم إلغاؤه في 1991 تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية مورست على الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأُمم المتحدة، لكن هذا القرار الجديد لا يغير من حقيقة أن القرار المُلغى صدر بإرادة المجتمع الدولي الحرة، ويمثل الضمير العالمي المعبر عن القيم الإنسانية المشتركة، في حين أن القرار اللاغي الجديد إنما هو نتاج ضغوط قوى دولية لفرض غاياتها ومصالحها السياسية. وهذا بلا شك يُظهر لنا أهمية الجمعية العامة كمنبر سياسي عالمي يمثل في الغالب الإرادات الحرة للدول المستقلة، ومن هنا يمكننا فهم غضب إسرائيل وحليفاتها الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا، من صدور قرارها الأخير بوقف إطلاق النار في قطاع غزة بُعيد إجهاضه في مجلس الأمن بالفيتو الأميركي.

كاتب بحريني
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية