العدد 5539
الخميس 14 ديسمبر 2023
banner
الخَارِجُ مِن فِردَوسٍ لآخَرَ!
الخميس 14 ديسمبر 2023

ها أنتَ تغرِفُ من كوثرٍ طالما كنت تَعِب منه رقراقاً شفيفاً، ينساب بين يديك، كلما استللت كتاباً من رفٍ، ورمقت آخر يتوق إلى نقراتِ أصابع تنقلت من خصلةٍ منسدلةٍ إلى أخرى! لم تكن جدائلُ الحسانِ تتدلى كحرير ناعمٍ بين يديك، بل تلك الصفحاتُ الورقية التي ما إن تفتح كتاباً إلا وتُشرق شمسٌ ويبزغُ صباحٌ وينبلج عِلمٌ تغتسلُ بنورهِ، وكأنكَ تُعانقُ المحبوبةَ التي لا يُدانِيها في العشقِ أحدٌ.
كنتَ في الفردوس؛ لم تخرج منه، لتذهبَ إليه، ولم تغادرهُ حتى يبردَ مقعدك أو يكون المكان فارغاً! مجلسكَ لا يزال مؤثثاً بكَ، بنظرةٍ تَرمي بها فكرةً هنا، أو أحرفاً خطت على صدرِ كتابٍ وكأنها القلادة على جيد الغزال، على ذاتِ الأريكةِ التي تطالعُ فيها ما خطَ الحكماء في أسفارهم، أو تستمعُ لما يتلوه فقيه أو فيلسوف أو شاعر، كنت تلاعبُ عدنان، وابتسامتكَ تسبقُكَ! ها أنتَ ضربتَ في الأرض عمراً مديداً، مطمئناً، واثقاً، لك رايتك ورأيك، وإن ارتجت الأرض من تحت قدميك، بقيت ثابتاً، متشبثاً بما أنت عليه، رابطاً على قلبك بيقينٍ لا يتسنى لي أن أحصل على شيءٍ منه، وأنا الذي أتقلبُ من سديمٍ لآخر!
لم تكن الأيام تُفزِعُكَ ولا المديحُ يسرقكَ من نَفسِك، وبقيت في فردوسك كصوفيٍ يتبتل، يرى أن العارفَ إذا تحركَ هلكَ. حين زرتكَ قبل سنواتٍ مضت، لا تسعفني الذاكرة لمعرفة أي عامٍ كان حضوري الأخير بين يديك، وجدتك كما أنت في عنفوانك وصفاء ذهنك وتسلسل الأفكار لديك، وإن سرق المرضُ شيئاً من قوة جسدك، إلا أن روحك بقيت كرمحٍ خطيٍ راكزٍ لا ينكسر.
أتذكرك وكأنك الآن أمامي، وأنا أبصرُ مجاهدَ ينشدُ ما كتبت الشاعرة لينا الطيبي، في نصها الأثير "نعناع الأهل"، حين نثرت ما في قلبها قائلةً "بعد الأهل، من ذا يشعلُ في قميص المساء غرفة الكستناء، من ذا يُطوِّفُ بخور الورد في أسَّرة الليل، من ذا يقطف الزهرة عن شرفة الدار ليزيّن بحبق الأصابع ولادة الصباح، من ذا ينوِّمنا عند ترتيلة ويوقظنا على الهالِ، من ذا بعد الأهل يزرعُ في تُربتنا الضحكة التي استبقتنا".. وأراك مبتسماً، تردُ على ابنك، وتقول له: أنت من تشعلُ المساءات الأنيقة، وتزينُ لياليها بنورٍ ستناله ما إن استهديتَ ببدرِ الحكمة وتمامِ بصيرتها.

كاتب وإعلامي سعودي
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية