العدد 5678
الأربعاء 01 مايو 2024
banner
عبقريته في الصحافة 
الأربعاء 01 مايو 2024

من نافلة القول أن طه حسين لطالما اقترن اسمه للوهلة الأولى في مخيلة عوام المثقفين المصريين والعرب بالأدب واللغة العربية فحسب، ولربما جاء اللقب الذي خُلع عليه: " عميد الأدب العربي" ليعزز هذه النظرة التنميطية التي حُصر فيها،في حين لم يكن طه حسين مجرد أديب كبير أو ناقد أدبي من أساطين النقد فقط، بل كان إلى ذلك علَماً كبيراً من أعلام الفكر والثقافة والسياسة في شتى روافد هذه المجالات، كما كان رائداً من رواد الصحافة المصرية، ومن المؤسف أن غُمط دوره الريادي في هذا المجال الأخير أو يكاد يكون مغيباً أو غير مسلط عليه الأضواء بما فيه الكفاية من قِبل المثقفين والأكاديميين الإعلاميين، ناهيك عن روّاد الصحافة بوجه الخصوص، ولعل شهرته ونبوغه في تلك المجالات المتعددة قد طغت وغطت على ريادته العبقرية في العمل الصحفي .
ولقد بدأت كتابات العميد الصحفية في مرحلة مبكرة من عمره وهو لما يزل شاباً يافعاً دون العشرين قُبيل انتهاء العقد الأول من القرن الفائت،فقد نشرت له في هذا الوقت صحيفتا "الجريدة" و "مصر الفتاة" قصائد غزلية ومقالات تحدث فيها عن ارتياده المسارح والملاهي وشغفه بالاستماع  إلى المغنيات والممثلات( عباس خضر، غرام الأدباء). وفي عام 1915 غداة اندلاع الحرب العالمية الأولى نشر في صحيفة "السفور" مقالاً جدلياً مهماً عما إذا كانت الحرب أداة من أدوات التطور الحضاري أم وسيلة لأفناء البشرية،ولم تكن حينها القنبلة النووية قد أُكتشفت. على أن عبد الرشيد محمودي يفرّق في دراسته " طه حسين من الأزهر إلى السوربون" بين مرحلتين من كتاباته الصحفية، الأولى وهي التي يعدها "المبكرة" والتي كانت قبل سفره لفرنسا للدراسة عام 1914، والثانية تلك التي كانت بعد عودته إلى بلاده في 1919 غداة تخرجه ونيله شهادة الدكتوراه(عن ابن خلدون).وحسب دراسة محمودي فقد كان طه حسين في مطلع العقد الثاني من القرن ذا نزعة محافظة كما تبدت على سبيل المثال في سلسلة مقالات نُشرت له في صحيفة "الهداية" 1911، حيث دعا فيها إلى تحريم زواج المسلم من الكتابيات،ومن المفارقات أن تزوج بواحدة منهن أثناء دراسته في فرنسا!  بيد أن ما أسماها المحمودي "المرحلة الثانية" من كتاباته الصحفية كانت هي المرحلة الثرية التي أتسمت بقفزة أو لنقل نقلة كبرى في نضج وتطور تلك الكتابات،ناهيك عن تمكنه من احتراف العمل الصحفي احترافاً عبقرياً مدهشاً بز فيه روّاد الصحافة في عصره؛ لما قام به من عمل متفان جبّار في بلاط "صاحبة الجلالة" كما لقبها أولئك الرواد ، كل ذلك رغم تشعب مهامه الجامعية واهتماماته الكتابية والبحثية الأخرى.
وكان طه حسين واحداً من قلة قليلة من كبار مفكري عصره خص الصحافة المصرية بأعظم كتاباته والتي سرعان ما طُبعت في روائع مؤلفاته، وأُعيد طباعة بعضها أزيد من عشر مرات، ومابرح الإقبال عليها في عصرنا متواصلاً.كما شهدت صفحات عدد من الصحف التي كتب فيها مساجلات ومعارك حامية دارت بينه وبين نظرائه من رموز الفكر والأدب والثقافة، وقد أُذي إيذاءً نفسياً شديداً جراء بعض تلك المعارك الصحفية،لعل أشهرها وأخطرها على الإطلاق كتابه الذي ضم بين دفتيه محاضراته التي ألقاها على مسامع طلبته عن "الشعر الجاهلي"وانشغلت الصحافة السياسية برمتها حينذاك بتسقّط أخبار هذه المعركة التي كُفّر وأُحل دمه بسببها، كما جُرجر-وهو الكفيف- إلى ساحات المحاكم،إلى أن صدر الحكم بحفظ ملف القضية. كما ظهرت عبقريته الصحفية في الإشراف على الصفحة الأدبية في صحيفة "السياسة" في العشرينيات، وفيها نشر مقالات أدبية متفرقة تحت عنوان "حديث الأربعاء " والتي صدرت لاحقاً في أحد كتبه المهمة الشهيرة.كذلك فإنه عندما طلب منه النحاس باشا في أوائل الثلاثينيات الكتابة في صحيفة الوفد " كوكب الشرق" كرّس ساعات طويلة من يومياته لهذه المهمة باذلاً قصارى جهده لتطوير الصحيفة، وخصص بانتظام مقالاً إسبوعياً أدبياً فيها، كما خصص مقالاً سياسيا منتظماً أيضاً تحت عنوان"حديث المساء" الذي كان ينتقد فيه بجرأة الأوضاع السياسية السائدة حينئذ، لكنه ترك هذه الجريدة في ربيع 1933؛ لمضايقات وعراقيل شتى لم يستطع تحملها لأنها تحول دون تمكنه من تطوير هذه الصحيفة مضموناً.(ما بعد الأيام، محمد حسن الزيات).بعدئذ انتقل طه حسين للعمل في جريدة "الوادي"، وتوثق صفحات هذه الصحيفة مقالاته السياسية اليومية الجريئة التي كان يكتبها تحت عنوان" حديث الوادي" منتقداً فيها سلطتي الأحتلال الإنجليزي والحكومة على حد سواء،هذا عدا عن كتاباته الأدبية التي جعل جزءاً كبيراً منها جاذباً لمساجلات أدبية وفكرية مع معاصريه عظيمة المنفعة،وكانت هذه الصحيفة تستقطب- بتوجيه منه- أقلاماً شابة متنوعة الاهتمامات والاتجهات.
ولعل طه حسين- بوزنه الأدبي والفكري الكبيرين- هو الرائد الصحفي الأول في الأشراف على الصفحات الثقافية والأدبية وتطويرها في الصحافة المصرية. ومع أنه تولى مؤقتاً إدارة تحرير بعض الصحف أو تولى-لوقت قصير- القيام بمهام رئيس التحرير، إلا  أن ذروة عبقريته في العمل الصحفي إنما تجلت في تقديرنا حينما تولى رئاسته تحرير مجلة" الكاتب" التي جعلها واحدةً من أعظم المجلات الأدبية الفكرية المصرية،حيث كرّس لها جُل وقته إبان عمرها القصير بين 1945 حتى إغلاقها عام 1947 .

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية