إذا كان هرتزل مؤسس الصهيونية العقل السياسي في إنشاء دولة إسرائيل، وجابوتنسكي المنظر الفكري، فإن إدموند روتشيلد (1845 - 1934) سليل عائلة روتشيلد الشهيرة كان الداعم الاقتصادي الأبرز بمساهماته الكبيرة في المشاريع الاستيطانية اليهودية في فلسطين منذ القرن التاسع عشر، ليعد بذلك المؤسس الحقيقي للاستيطان في فلسطين. تنتمي أسرة روتشيلد إلى فرانكفورت في ألمانيا، عاشت في حي يهودي ضيق يضم 3000 يهودي، يتعرضون للاضطهاد فلا يسمح لهم بمغادرة الحي في الليل ولا في أيام الأحد أو أعياد المسيحيين، وكذلك منعوا من دخول الحدائق والمقاهي. لكن هذه الأسرة استطاعت رغم ذلك أن تشق طريقها في عالم الاقتصاد وتصبح أكبر بنك في العالم تقرض الدول والحكومات وتمول الحروب أيضاً.
بدأ روتشيلد نشاطه في دعم اليهود بإقامة مشاريع ومستوطنات زراعية في فلسطين رغم أنه لم يكن مؤيدا لفكر هرتزل في البداية، واتسمت أول مقابلة بينهما عام 1896 بالفتور الشديد، واعتبره مجرد متسول. لكن مع انتهاء الحرب العالمية الأولى توطدت علاقته بالحركة الصهيونية، واستطاع بنفوذه المالي أن يحصل من بريطانيا على وعد بلفور. منذ هذه اللحظة تحول من مستثمر إلى راع لمشروعات الاستيطان، يلجأ إليه زعماء المستوطنات كلما تعرضوا لأزمة مالية. كان إنفاقه على المستوطنين شديد الضخامة حيث أنفق بين أعوام 1883 – 1899 حوالي 1,6 مليون جنيه إسترليني واشترى أرضا لإقامة مستوطنة زراعية نموذجية أطلق عليها اسم والدته، وأسس عدة صناعات مثل الزجاج وزيت الزيتون وعددا من المطاحن، وساهم في تأسيس هيئة كهرباء فلسطين عام 1921 ما جعل البعض يطلق عليه (أبو المستوطنين)، خصوصا بعد أن قام بتحويل مشاريعه في فلسطين إلى جمعية الاستيطان اليهودي، وقدم لها منحة تقدر بأربعة ملايين فرنك لتصبح قادرة على تمويل نفسها في المستقبل.
ثم أنشأ جمعية أخرى تحمل نفس الاسم عام 1924 ترأسها ابنه جيمس، أسس من خلالها أكثر من 30 مستوطنة في جميع أنحاء فلسطين، وأنفق على هذه المشاريع حوالي 7 ملايين فرنك ذهبي، وقام بتمويل مشروع طويل الأمد لتجفيف المستنقعات وإبادة الملاريا وإنشاء عيادات طبية لعلاج المصابين بالمرض، كما امتدت مساعداته إلى مجال التعليم، فقدم دعما للمدارس الصهيونية عام 1923 وساهم بالأموال اللازمة لإنشاء الجامعة العبرية في القدس.
عقب كل هذه المساهمات الكبيرة تم اختياره ليكون رئيسا فخريا للوكالة اليهودية عام 1929.
لا شك أن تبرعات روتشيلد وأمثاله كانت عاملا حاسما في إقامة الدولة اليهودية، ولولا هذا الدعم المالي الضخم ما كان لإسرائيل أن تنجح في اغتصاب أراضي الشعب الفلسطيني.
من هنا حرصت إسرائيل على نقل رفاته إليها بعد وفاته بنحو 20 عاما، وقام بن جوريون رئيس الوزراء في ذلك الوقت قائلا: أشك في ما إذا كان من الممكن أن نجد على امتداد التاريخ اليهودي كله في المنفى أي على امتداد فترة 2000 سنة شخصا بمنزلة شخصية ادموند روتشيلد الرائعة باني الاستيطان اليهودي.
لعل السؤال الآن، إذا كان روتشيلد قد استطاع أن يفعل كل ذلك فماذا يحدث إذا اتحدت الأموال العربية والإسلامية وراء القضية الفلسطينية؟
بالتأكيد ساعتها لن تجرؤ إسرائيل على القيام بعمليات إبادة في غزة، وحتى أميركا لن تستطيع استخدام الفيتو ضد إعلان الدولة الفلسطينية.
مدير تحرير “الأهرام”