العدد 5533
الجمعة 08 ديسمبر 2023
banner
المثقف والطوفان
الجمعة 08 ديسمبر 2023

يمثل طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، مدعومة بالولايات المتحدة الأميركية، منعطفا تاريخيا شديد التأثير في الوعي بالعالم والقيم الأخلاقية والإنسانية التي تحكمه، وعادة ما يكون لـ "المثقف" و"المفكّر" العربي دور بارز في قراءة هذه الأحداث وتحليل أبعادها وتداعياتها بعمق منهجي وبصيرة ثاقبة وبعيدا عن انفعالية كتاب الصحافة اليومية، غير أنّ الحضور الباهت أو المتأخّر والصّمت الرهيب وتعمّد الغياب والتواري حالات ميّزت "المثقّف" العربيّ، وقد طوت الحرب يومها الستّين، حالات تدفع إلى التساؤل عن دور هذا المثقف بل عن وجوده أصلا وهو الذي لا يكاد يغيب في حالات الرخاء.
بعض "المثقفين الغربيين" قالوا سلاما، وأظهروا موقفا واضحا تجاه الطوفان والحرب في غزة؛ ومنهم الفلاسفة: نعوم تشومسكي، نعومي كلاي، السلوفيني سلافوي جيجيك والكاتب والمؤرخ المالطي مارك كاميليري، فقد ندّدوا بقتل الأطفال وصرّحوا بمعارضتهم إسرائيل في حربها على المدنيين العزّل، واعتبرتها الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، ذات الإسهامات في الفلسفة الأخلاقية ومؤلفة كتاب "قوة اللاعنف"، "إبادة جماعية" يجب أخذها على محمل الجدّ، كما وجّه أكثر من 3300 كاتب وشاعر ومثقف وممثل وموسيقي وصانع أفلام بريطاني، رسالة مفتوحة بعنوان "فنانون من أجل فلسطين"، اتّهموا فيها الحكومات بـ "مساعدة إسرائيل وتحريضها على ارتكاب جرائم حرب في غزة".
وفي الوقت الذي انتظر فيه الرأي العام العربي مواقف مماثلة وقوية للمثقف العربي، بل وتحاليل عميقة ومؤثّرة وقراءات بعيدة النظر للمثقفين العرب، وجدنا فراغا قاتلا يتركه المثقف العربي: فهل هي الصدمة من هول ما يحدث؟ أم هو التعالي على هذه المحنة البشرية؟ أو لعلّه الانغماس في الأكوان الهلامية الذاتية؟ نعم، لقد لاذ بعض من نسمّيهم مثقّفين ومفكّرين بالصمت في هذا الامتحان العسير للإنسانية، وكأنّ نشاطهم الفكري وإسهاماتهم التحليليّة العميقة توقّفت في حدود قضايا الجندر والهويّات المسحوقة والنبش في التراث لغايات في نفس هذا "المثقف" أو ذاك، وبعضهم الآخر اختفى وراء عالمه الافتراضي ينشر جملة سريعة أو صورة خاطفة أو تغريدة غريبة... دون أن نعدم أصواتا صادقة ساهمت في التوقيع على عرائض الإدانة.
إنّ هذا الغياب المدوّي يطرح أكثر من ألف سؤال؛ فهل نعيش فشل المثقف العربي مرة أخرى أمام منعرج تاريخي حاسم كما كان غائبا في منعرج 2011؟ هل فشل في حلّ أسئلة امتحان غزة؟ وفي الإجابة عن سؤال ما الذي يجب أن يقدّمه المثقّف في هذا الطور من المعركة؟ أم هو العجز وانقراض دور المثقف العربي بفعل التهميش الممنهج سياسيا وإعلاميا؟ أو لعلّه الخوف على المكاسب والمكانة والجوائز المنتظرة! فربّما يسكت بعض المثقفين العرب الكبار حتى لا تتلاشى آمالهم في الحصول على الجوائز الكبرى (نوبل نموذجا)؛ لأنّهم يعلمون أنّ الحصول عليها لا يتحقّق إذا نبس أحدهم بِبنت شفة سُوءًا في إسرائيل.
لقد كفر الكثير بمفهوم "المثقف والمفكر العربي" لطول غيابه، وأحسنُ القائلين بوجوده شكّكوا في قدرته على لعب دور قيادي ميداني في هذه اللحظة الراهنة، ولم يبق إلا بعض المتفائلين بالمثقف العربي والمؤمنين به يتطلّعون إلى قراءة عميقة لهذه اللحظة التاريخية الفارقة وفهم دقيق لمجريات التاريخ.

كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية