العدد 5462
الخميس 28 سبتمبر 2023
banner
الحق في المعرفة
الخميس 28 سبتمبر 2023

المبدأ الأساس الذي تقوم عليه الصحافة يقول: "حق الجمهور في المعرفة"، فهناك الكثير من الصحافيين الذين آمنوا بهذا المبدأ، ورأوا أن هذا الحق أمر أصيل، وأن ليس لأحد - شخصا كان أم كيانا - أن يستحوذ على المعلومات ويحتكرها تحت أي من المسميات، لأن معرفة الجمهور تدفع إلى محاسبة المؤسسات حتى تستقيم وتجوّد أعمالها، لذلك فإن حق الجمهور في المعرفة يعتبر أحد أهم محركات الديمقراطية الحقّة، ولأن الصحافي جزء من المجتمع الذي من حقه أن يعرف، يرى نفسه موكولاً بهذه المهمة، أن يقدم المعرفة له ولغيره ولا يحتكرها.
على مدى العقود الثلاثة الماضية – وهي مدة عملي في الصحافة – جمعتني الظروف مع عدد غير قليل من الصحافيين الأوائل المهمين على الصعيد المحلي، بل وأبعد من ذلك، ولكلٍّ منهم تجاربه الخاصة في العمل السياسي، والصحافي، والوطني، الرسمي منه أو الأهلي، ويمكن لأحدهم – في ساعة صفا – أن يسرد لك من تجاربه، وذكرياته، ما هو مرّ وحلو، وما يدعو للضحك أو ما يدفع مرارة في قعر المريء، كل هذا مغلف بالكثير من المشاهد التي تخالها أسطورية لغرابتها الشديدة، أو لأنها طقوس لم تعد تمارس في زماننا هذا.
أحد هؤلاء الصحافيين الآباء (من دون ذكر الاسم) روى ذات مرة كيف جرى تجنيده في حركة القوميين العرب، وكيف تعرف على زملائه، وما هي كلمة السر، ولمن قالها، ومن الذي نظمه، وما هي أهم القراءات التي من الواجب عليهم قراءتها، ما الذي عملوه أو كانوا ينوون عمله، وكيف صاغوا كيانهم هذا، وأخيراً.. كيف انتهى الحال بهم. فطلبت منه أن يوثق هذا التاريخ على ورق، فأخذني في جولة كلامية طويلة وبعيدة المدى، انتهت برفضه هذا المقترح.
صحافي آخر، لم أترك فرصة إلا وقلت له أن يكتب عن الفترات العصيبة التي مرت عليه أثناء ممارسته العمل السياسي، وكيف كان و"رفاقه" يتحايلون لكتابة رسائل على قصاصات أوراق، وكيف يشعلون سجائرهم الشحيحة بأعواد الكباريت الأكثر شحّاً، واحتمالهم حر الصيف وقرّ الشتاء وهم في محابسهم الخشبية، ولكثرة طلبي ورفضه أظنه لا يفضل اللقاء بي.
وثالث، كان ضمن بحرينيين في منطقة ظفار أيام "الثورة"، وألححت عليه في 2006 (أي بعد 30 عاماً من انتهاء ثورة ظفار) أن يدون هذه المذكرات واليوميات، ويصف الحياة والمكان والقبائل وغيرها، وما الذي دفعهم للذهاب، وكيف حبطت أعمال الثورة، إلا أنه قال: "لم يحن الوقت بعد"! وللأسف سمعت أنه الآن يعاني تراجعاً صحّياً.
تحية للذين كتبوا ويكتبون تجاربهم بلا تردد أو خوف أو خجل، لا لأنهم حققوا مرادهم، بل لأنهم نجوم تمشي على الأرض، فشلت في نيل مطلبها في زمن معين، فوثقت هذه التجارب قبل أن يبعثرها الزمان.

كاتب بحريني


 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية