العدد 5437
الأحد 03 سبتمبر 2023
banner
دمعة وفـاء
الأحد 03 سبتمبر 2023

إن كلمات الرثاء صعبة في حق الأوفياء ومن هولاء الدكتور رفعت عبدالحميد محمود، مدير إدارة الصحة العامة بوزارة الصحة سابقا، الذى رحل عنا وانتقل إلى جوار الرفيق الأعلى صباح يوم السبت 25 محرم 1445 هـ الموافق 12 أغسطس 2023 م، ووُريَ جثمانه الثرى بعد صلاة العصر في مقبرة المنامة.

دار في خاطري الكثير من الذكريات عند سماعي نبأ الوفاة، فقد ربطتني بالفقيد علاقة صداقة منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وتوثقت من خلال أداء صلاة الجمعة في جامع الفاتح وزادت أواصر العلاقة بعد أن تلاقينا ومن دون ترتيب مسبق في الحج، مما جعلنا نزداد قربا، ولمست بما يتحلى به من أخلاق حميدة وتواضع وعلم، فقد كان ملما في كثير من الأمور وخاصة التاريخية والطبية، وكنا نحرص على اللقاء كلما سنحت لنا الظروف حتى أقعده المرض ودخل المستشفى.


بعض ذكرياته
كان الفقيد من الأشخاص الذين لا يتحدثون عن أنفسهم، إلا أنني استطعت من خلال اللقاءات أن ألمَّ ببعض ذكرياته التي تستحق تدوينها، فقد ترك الفقيد بصمات مضيئة في مجال الطب العلاجي والوقائي؛ كونه من أوائل الأطباء المصريين الذين وظفتهم إدارة الصحة العامة بفضل التوجيهات الحكيمة للمغفور له بإذن الله تعالى صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين آنذاك (1942/1961)، فقد أمر بتوظيف أطباء عرب لعلاج المواطنين.


وصل الفقيد إلى البحرين في صيف يوليو 1960، وقد توطدت علاقة صداقة مع المرحوم المحامي الشيخ عيسى بن محمد بن عبدالله آل خليفة خلال إحدى زياراته إلى القاهرة، وأعلمه بأن البحرين في حاجة إلى أطباء من مصر وشجعه على التواصل مع إدارة الصحة للعمل في مستشفى النعيم؛ كونه خريجا من جامعة القاهرة كلية الطب بمستشفى القصر العيني في عام 1957، وبعد تواصله مع الإدارة، استلم برقية من السيد محمد رحمة التاجر وكان الشخص الثاني في إدارة الصحة للحضور والعمل في مستشفى النعيم، وأن ما خفف من غربته، المعاملة التي لقيها من الجميع، فمنذ وصوله إلى المطار، لمس كلمات الترحيب من موظفي المطار وسائق سيارة الأجرة الذي أخذه إلى فندق البحرين لقربه من مستشفى النعيم والذي قصده في اليوم التالي وقابل السيد التاجر الذي كان مرحبا بوصوله وسهل له جميع إجراءات التوظيف والسكن وتوطدت العلاقة معه.


فحص الأغذية
عمل الفقيد مع الدكتور سنو وعند معرفته بأن لديه خبرة في الصحة العامة، طلب منه بالإضافة إلى علاج المرضي أن يقوم بفحص المواد الغذائية في سوق اللحم والخضرة الكائن بالقرب من بلدية المنامة القديمة، كانت طريقة الفحص بدائية بإدخال سيخ حديد إلى أكياس الرز والطحين وعند إخراج السيخ يتم ملاحظة وجود أو عدم وجود الديدان، فبادر الفقيد بإعلام الدكتور سنو بأن الفحص لا يرقى إلى المستوى المتعارف عليه ويحتاج إلى تحديث. وبعد مغادرة الدكتور سنو وتعيين الفقيد مديرا للصحة العامة في أواخر السبعينات من القرن الماضي تم إنشاء قسم البيئة وقسم التغذية والصحة الصناعية.


عيادة الرفاع
انتقل الفقيد إلى عيادة الرفاع، حيث أمر صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين آنذاك (1961 / 1999) السيد التاجر أن يتواجد طبيب عربي في الرفاع الغربي، لحرص سموه على تواصل المواطنين مباشرة مع الطبيب. فعرض عليه العمل في العيادة لفترة تجريبية وفي حالة رغبته في الاستمرار، فإن إدارة الصحة سوف تستأجر فيلا لسكنه في الرفاع الغربي وفي حالة عدم ارتياحه، فسوف يطلب من دكتور آخر القيام بالمهمة.


كانت تجربة صعبة للفقيد في البداية، ولكن المعاملة الراقية التي لقيها من الحاكم والمسؤولين والمواطنين جعلته يشعر في أنه في بلده ولم يشعر بالغربة مطلقا مما سهل عليه نقل سكنه إلى فيلا قريبة من قصر الحاكم، فكان يداوم في الفترة الصباحية بعيادتي الرفاع الغربي والرفاع الشرقي من يوم السبت إلى الأربعاء أما في يوم الخميس، فإنه يذهب إلى عيادة الرفاع الغربي لمدة ثلاث ساعات وبعدها يذهب إلى عيادة الزلاق لمدة ساعتين.


البشاشة والتواضع
وخلال تلك الفترة كان الفقيد يزور صاحب العظمة في مجلسه وقال عن عظمته: ترى البشاشة والتواضع والمهابة والوقار ومكارم الأخلاق، وتعرف على أفراد الأسرة الحاكمة ومنهم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه وكان وليا للعهد آنذاك، وصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل خليفة رحمه الله وأنجال عظمته والمسؤولين والمواطنين والوافدين.


وخلال تواجده طبيبا بالرفاع، ابتُعث لدراسة طب الصناعات من جامعة ليڤربول في عام 1962 وأتمها بالماجستير من جامعة لندن في عام 1966 وبعدها واصل الفقيد العمل في عيادتي الرفاع حتى عام 1974 لينتقل إلى الصحة العامة كنائب لمدير إدارة الصحة العامة، وتم ترقيته كمدير للإدارة في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وخلال عمله اهتم برعاية الطفولة والأمومة ومواصلة إنشاء المراكز الصحية والعمل على إنشاء مستشفى شامل وحديث (السلمانية) والقضاء على كثير من الأمراض المعدية كالملاريا والكوليرا وشلل الأطفال والإشراف على التطعيم ومراقبة الأغذية وتأسيس إدارة للتثقيف الصحي وكثير من الأعمال المرتبطة بالصحة العامة.


بعثة الحج
واصل الفقيد الدراسة مرة أخرى وحصل على الماجستير في علم الوبائيات من جامعة هارفرد الأمريكية في 1981 / 1982، وعلى إثر ذلك انتدب للعمل مع منظمة الصحة العالمية فرع الإسكندرية لمدة سنتين، وبعدها رجع إلى عمله في الصحة العامة حتى تقاعده. والفقيد عضو مؤسس لجمعية الأطباء البحرينية وعضو في لجنة حماية البيئة.  


ومن المواقف التي لا ينساها الفقيد مشاركة المواطنين والوافدين الاحتفالات التي عمَّت البلاد بمناسبة تولي مقاليد الحكم صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم الدالة على الترابط والمحبة بين الحاكم وشعبه، كما لا ينسى اختياره للذهاب مع بعثة الحج الطبية إلى الديار المقدسة بترشيح من والد الأستاذ عبدالله يوسف الشيخ.


تزوج الفقيد من إحدى كريمات الأسر البحرينية المعروفة وهي المرحومة عائشة بنت خليل بن إبراهيم كانو “أم حسام” في عام 1963. ومرت السنوات وأصبحت البحرين وطنه الذي لم يشعر بها في أي يوم من الأيام بأي تمييز، وعند سفره إلى الخارج يشعر بالحنين للبحرين وشعبها المتجانس والمتسامح.


تميزت حياة الفقيد بالعطاء المتواصل في خدمة الجميع وكان محل احترام وتقدير جميع من عرفه، وترك لديهم ذكرى طيبة لا تنسى وستبقى ذكراه حاضرة لدى الجميع بإذن الله.


أسال الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يدخله فسيح جناته ويلهم أهله ومعارفه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية