العدد 5247
السبت 25 فبراير 2023
فضاءات سياسية رضي السماك
رضي السماك
عام على "العملية الخاصة"
السبت 25 فبراير 2023

ها قد مر يوم أمس عام كامل على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي أطلق عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "العملية الخاصة" دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل لإخمادها وإيجاد تسوية بين الطرفين تضع حداً لنزيف الدم المتواصل الذي يذهب بأرواح عشرات الألوف من شعبيهما، ناهيك عما تسببه من دمار هائل في عمران البلدين، ولاسيما أوكرانيا باعتبارها الطرف الأضعف المعتدى عليه.

وكان واضحاً بعد مضي ثلاثة شهور من الحرب أن حسابات بوتين من "العملية الخاصة" التي أراد منها حرباً خاطفة لفرض مطالب بلاده الأمنية تجاه أوكرانيا وحلفائها الأطلسيين، هي حسابات غير مدروسة بما فيه الكفاية، فالعملية الخاصة تتعثر، وضم الأقاليم الأربعة لم يسر بسهولة كما خُطط له.

إن حلف "الناتو"، بقيادة الولايات المتحدة، ألقى بكل ثقله مالياً وعسكرياً خلف كييف، بما ذلك إرسال المرتزقة، وباتت موسكو تخوض حرباً فعلية وحدها في مواجهة هذا الحلف العسكري الجبّار على الساحة الأوكرانية، والذي رفض حل نفسه رغم حل حلف "وارسو" السوفييتي نفسه؛ تحسبا من أية استراتيجية عسكرية قد تتبناها القوة الروسية إذا ما نهضت مجدداً تحت أي عنوان أو مشروع آيديولوجي، سيما وأن الصراع بين الثقافتين والمصالح الروسية والغربية ليس وليد ثورة اكتوبر 1917، بل هو قديم يمتد إلى عصر النظام القيصري، لا بل إلى ما قبله. وهذا ما يراهن عليه بوتين من خلال بعث وتضخيم التناقضات بين الثقافة الروسية وتقاليدها وبين الثقافة الغربية، ومن ثم الاستفادة براجماتيا ما أمكن من أمجاد الحقبتين السوفييتية والقيصرية، خصوصا في ظل افتقاره إلى مشروع قومي آيديولوجي مقارنة بالمشروع الاشتراكي الذي كان يبشر به النظام السوفييتي السابق داخليا واُمميا، عدا ذلك فإن بوتين ما فتئ يحاول تصوير الحرب التي يخوضها بأنها ضد النازيين الأوكرانيين، لمطابقتها بالحرب التي خاضتها بلاده ضد ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن التناقض والصراع بين أوكرانيا وروسيا غدا اليوم أكبر من أن يُختزل بهذه الطريقة المبسطة، فلا يمكن انكار واقع التناقضات بين الشعبين التي تراكمت منذ ثلاثة عقود ونيف، أيا كان دور الغرب في تغذيتها.

والحرب أيا كانت أسبابها أو المتسبب فيها، لا يمكنها أن تمحو بسهولة ما تتركه من جروح غائرة من المرارة والكراهية في نفوس الشعب المعتدى عليه، وهنا يُطرح السؤال مجددا هل كانت تلك الحرب حتمية ومصيرية لا مناص للشعب الروسي من خوضها؟ ولعل هذا السؤال يغدو اليوم أكثر منطقية إذا ما وُضعت العملية الخاصة على ميزان الموازنة بين كفتي الخسارة والربح، عدا ذلك فقد بات من المشكوك فيه تماما أن تنتهي الحرب بما ابتغاه الرئيس الروسي كاملاً منها، بل لا يبرر خوضها كل هذه التضحيات الهائلة التي تسبب في تكبيد شعبه بها. والمؤسف أنه في الوقت الذي حافظ أسلافه السوفييت على معادلة توازن الرعب النووي وتجنب أية مواجهة نووية مع الغرب حتى في أحلك وأصعب نُذر المواجهة، مدفوعين بذلك ليس بمرارة محرقة حرب نووية خاضوها مع غريمهم الأميركي الغربي، بل بما قدمه شعبهم السوفييتي من تضحيات تاريخية هائلة لم ينسوا أهوالها، وظلت على الدوام ماثلة أمامهم عبرة وعصية على النسيان؛ للعمل بكل السُبل لتلافي تكرارها، فإن القيادة الروسية الحالية التي لم تخض تلك الحرب الضروس المدمرة، وإن شارك آباؤهم وأجدادهم فيها، لا تبدو تتمتع بإحساس كاف لعواقب تحميل شعبها حرباً جديدة، سيما إذا ما كانت هذه المرة نووية. وهنا فإن التهديدات النووية غير المباشرة التي تلجأ إليها القيادة الروسية بين الفينة والأخرى، وآخرها تجميد العمل بمعاهدة ستارت للحد من الرؤوس النووية، لحمل الخصم على تقديم تنازلات وسطية أسوةً بمواقف شبيهة وقعت خلال الحرب الباردة، وأشهرها أزمة الصواريخ الكوبية 1962، هي وسائل وتكتيكات مغامرة ثبت عدم جدواها.

وصفوة القول فإنه وبعيداً عن مرامي الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين من إضعاف روسيا وتسييد النظام الأحادي القطبية، ومما تخسره الأخيرة على الأرض من تداعيات وامتداد الصراع زمنياً، فإن عالم بعد الحرب الدائرة لن يكون بأي حال من الأحوال هو عالم ما قبل الحرب لصالح القوى الغربية، أيا يكن قدر المتغيرات المتوقعة للعالم الجديد القادم، ومن ثم فإنه آن الأوان لروسيا أن تراجع حساباتها لإنهاء هذه الحرب التي لن تكون نهايتها في أحسن الأحوال إلا أقرب إلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وليكن خروجها من الحرب، حتى ولو بأقل قدر من المكاسب الممكنة، بمثابة "استراحة المحارب" استعداداً لخوضها بأدوات سلمية أخرى في ظل متغيرات جديدة مواتية، دون الإصرار بالضرورة على الحل العسكري السريع، خصوصا إذا ما طال وتضخمت تكاليفه على نحو استنزافي كارثي يضر بالشعبين ومصالح العالم أجمع.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية