تسلط الاستاذة الناقدة د. رضوى عاشور بتكثيف مركز على جوانب مما تعرض له أحمد فارس الشدياق( 1805-1887)من اضطهاد من بني قومه، ومما ذاقه من صنوف ألوان الأذى في وطنه والمهجر. هو الذي وُلد لعائلة مارونية ثم تحول للبروتستانية في شبابه، ثم أعتنق الإسلام في كهولته أثناء حياته في المهجر أثناء إقامته بتونس وتسمى باسم "أحمد". وكان ما لقاه شقيقه أسعد من تعذيب وتنكيل من الكنيسة المارونية حيث اُستشهد في معتقلها من أسباب تمرده على هذه الكنيسة.
وكان في منتصف عشرينيات عمره غادر لبنان إلى مصر، ومنها إلى مالطة، لكنه عاد ثانية إلى مصر ليقيم فيها نحو عشر سنوات( 1828- 1834) حيث عمل في صحيفة " الوقائع" المصرية، لكنه عاد مجدداً إلى مالطة ليعمل مع المبشرين البروتستانت في ترجمة وتصحيح الكتب العربية الصادرة عن مطبعتهم، فضلاً عن تعليم العربية. ويصل مجموع سنوات إقامته في مالطة نحو ثلاث عشرة سنة.
وإن تخللتها سفرات إلى الشام وتونس وإيطاليا وانجلترا، وأقام في هذه الأخيرة ثلاث سنين أنجز فيها مع المستشرق صمويل لي ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية. ثم عاد إلى باريس وعاش فيها عامين، ثم عاد إلى لندن وأقام فيها أربع سنوات. وفي عام 1957 أشهر إسلامه في تونس، وظل يعمل حينئذ في الترجمة لمدة عامين، حتى أستقر به المطاف بالإقامة في الآستانة حيث أسس فيها صحيفة " الجوائب "الإسبوعية، وكان ذا حس صحفي معاصر في تنخله لعنوانه صحيفته؛ فالجوائب تعني الأخبار المهمة الأخيرة الطارئة. وأخذ يكتب فيها بانتظام وسخرها لنشر وتحقيق نفائس المخطوطات العربية، وكان أن أسس مطبعة الجوائب 1870.
ويعتبر الشدياق الرائد العربي الأول في تأسيس فن كتابة المقالة في الصحافة العربية المعاصرة، وقد جُمعت مقالاته المنشورة في الجوائب في سبعة أجزاء تغطي الفترة( 1871- 1880). وهو من وظفوا العامية في مواضع جميلة متوائمة مع الفصحى. والملاحظ بأنه آثر توظيف العامية المصرية على الشامية، وذلك بعد تدوينه أكثر من سبعمئة صفحة من كتابه "الساق على الساق". وإذ تحدثنا في الحلقة الأولى عن مأساة نفائس الكتب العربية التي تُهمل أو تُحرق جهلاً بقيمتها، فقد ظل هاجس الشدياق طوال كتابته مؤلفه "الساق على الساق"الخوف من حرق مخطوطه لما لأعمال الحرق من تاريخ مخز في الثقافة العربية،حتى أن الناقدة عاشور تعد أن هاجسه في الخوف من حرق الكتاب ظل ملازماً له من فاتحته إلى خاتمته، هو الذي أحترق جزء كبير من أعماله النفيسة في حادث حريق عرضي نشب في منزله بالآستانة.
وعلاوة على الأعمال الريادية في الصحافة، فقد كان الشدياق يحمل أفكاراً إصلاحية مستنيرة نحو المرأة ووعي عميق بضرورة تعليمها وعدم ابقائها حبيسة جدران المنزل. وكان إلى ذلك لصيقاً بقضايا وطنه، وهو من أوائل اصلاحيي عصر النهضة الذين طالبوا بتعليم المرأة،ولم يسبقه في ذلك إلا بطرس البستاني، كما أكد أيضاً على حقها في العمل والأختلاط وفي أختيار الزوج وفي الطلاق والمتعة الجسدية. وكان في مواقفه هذه أكثر جذرية من الطهطاوي وقاسم أمين والبستاني، وهو من تنبهوا أيضاً إلى الأنحياز الذكوري في اللغة التراث.
وقد أستعرضت المؤلفة عاشور فقرات من حوارات افتراضية درارت بينه وبين زوجته الفارياقية حول تبرج المرأة وأنحياز اللغة للذكورية، وتظهر الفارياقية في هذه الحوارات كمدافعة شرسة عن حقوق المرأة في المساواة للرجل بندية متكافئة.كما أظهرها تتمتع بحس طبقي متقدم في حديثها عن أحوال عمال وفلاحي وفقراء أنجلترا، فضلاً عن أشمئزازها من دفع النساء لامتهان أجسادهن للرزق، والحق فإن الناقدة عاشور تتصف في مقارنتها بين الشدياق في وصف أوروبا وبين انبهار الطهطاوي بالموضوعية بالنظر إلى أن هذا الأخير يشاركها المواطنة المصرية المشتركة، ففيما الشدياق يقدم رؤية نقدية للواقع الاجتماعي الذي تزخر به المجتمعات الاوروبية منتصف القرن التاسع عشر ميلادي والمتمثل في مظاهر الفقر والبؤس والاستغلال والأحياء الشعبية الوضيعة، لا مظاهر المدنية والرخاء كما تبدو للوهلة الأولى فحسب، فإن رفاعة كان مفتوناً بمساكن أثرياء القوم وستائر غرفهم المتعددة الأغراض وأرضياتها ومداخنها، في حين كانت نظرته إلى الفقراء تتسم بالدونية باعتبارهم "الأسافل" و " العوام" ، لا بل أنها لم تتوان من اتهامه بالنظرة الطائفية تجاه أقباط شعبه. ( ص ٦٤).
أما عن مآثر الشدياق في اللغة وتجديدها فهي لا تُعد ولا تحصى حتى يمكننا القول أنه كان أشبه بمجمع لغوي قائم بذاته؛ لما سبق فيه المجامع اللغوية العربية من اثراء وتجديد لغويين لم تر بعدئذ من بد لاقرارها واعتمادها. وعلاقة الشدياق باللغة -على حد تعبير عاشور- علاقة مركبة، فهناك ولعه الخاص بها، وهو ولع ممتد رافقه منذ الطفولة إلى الشيخوخة، وهناك الأحساس بالتهديد، وهناك تجربته الثرية الواسعة في البلدان الأوروبية وعمله في الترجمة، وخاصة تجربته المريرة في ترجمة الكتاب المقدس مع القس صمويل أثناء اشرافه عليه في الترجمة ومناكفة هذا الأخير له في قدراته اللغوية الفذة . وكان الشدياق شديد الإيمان بقدرات لغة اُمته في مواكبة التطورات الحضارية واستيعابها، ففي مقدمة كتابه" الجاسوس على القاموس" يفحم من يزعمون بأن اللغة العربية لا تصلح في هذا الزمن ولا بد من كلام الأجانب: " كلا وربك مابرُّوا ولا صدقوا، وما دروا أنهم بالذي غالب نفسه لحقوا، لأنهم ما قالوا ذلك إلا لحرمانهم منها، وقصورهم عنها، فمن ثم مست الحاجة إلى زيادة تفصيل لمفردات لغتنا ومركباتها، وتبين لأصولها من متفرعاتها، وافراز لأفعالها من مستقاتها (ص٣) ( ص ١.٦ من الحداثة الممكنة).
والحق فإن أحمد فارس الشدياق هو أول -كما ذهبنا- من أدرك قدرة العربية على استيعاب مستجدات الحضارة الاوروبية ومصطلحاتها بفضل خبرته في الترجمة، وكم كان رائعاً لو طال أهتمامه ترجمة المأثورات العربية إلى الإنجليزية. وإن كنت أرى بأنه لم يعِ بما فيه الكفاية اشكالية التخلف التاريخي للنحو العربي.على أن ذلك لم يمنع الكثيرين من تشبيه مكانته اللغوية السامقة بمكانة الخليل بن أحمد، وسيبويه، وابن فارس والثعالبي والعسكري.
وقد نعته الكاتب اللبناني التقدمي مارون عبود ب " صقر لبنان" في كتابه المعنون بهذا الاسم، وأنه أحد ثلاثة أو أربعة في تاريخ الأدب العربي…الفارياق لم يكتب مثله شرقي،كما يقصر عنه كثيرون من نوابغ الغرب "ويضيف: ليس قي القرن التاسع عشر أدب حي، كما نفهم الأدب اليوم، إلا ما كتبه الشدياق". وقد يذهل القاريء إذا ما عرف بأن كثرة من المفردات والمصطلحات المتداولة في عصرنا، وخصوصاً في اللغة السياسية، كما في الآلات الشائعة إنما هي من وضع وترجمة الشدياق، كما سننأتى على ذلك في الحديث القادم.