يعود شغفي بتتبع أنشطة نجوم الغناء والسينما، أو ما يدور بينهم من صراعات بواعثها الغيرة، إلى سن الثانية عشرة ونيف من العمر (سنة أولى إعدادي) أواخر الستينيات، وهذا الشغف متلازم أيضاً مع تولعي باقتناء الصحف والمجلات المصرية واللبنانية، الفنية منها والسياسية على السواء، وبتوالي سني النضج أدركت عبثية هذه الظاهرة وتخلفها الحضاري. وفي كتابه القيّم "معارك فنية" للدكتور نبيل حنفي محمود (وهو أستاذ في الهندسة) يرصد لنا - بتحليل موضوعي شائق وموسع - عشر معارك كبرى من تلك المعارك التي دارت بين النجوم، ووقعت جميعها في عصر "الزمن الجميل"، ومع أن الظاهرة قديمة تاريخياً، إلا أن جذور نشرها في الصحافة برزت بشكل لافت في أوائل العشرينيات، ومن ثم أخذ نشرها يتطور ويتوسع بتطور وتوسع وسائل الإعلام.
كانت هذه المعارك تدور - كما يذهب المؤلف - بدوافع شعور النجم الفني بالغيرة من نجم آخر يرى فيه منافساً خطيراً على نجوميته التي يطمح أن يتفرد بها وحده في الصدارة بين نظرائه النجوم، فينشغل بالتخطيط في كيفية إزاحته أو تحجيمه، وكثيرا ما يشترك معه في هذا المخطط الملحن وسائر المشاركين في مشروع الأغنية الجديدة، سيما إذا ما حققت نجاحاً كبيراً. وغالبا ما يكون سلاح الغيورين للنيل من خصومهم الاصطياد في الماء العكر من خلال تضخيم أية هفوة أو زلة عادية يقعون فيها، بل لا يتورعون عن النيل من حياته الخاصة، لا بل يلفقون الهفوة افتراءً. وكم شهدت أروقة المحاكم مئات القضايا على خلفية تلك المعارك الفنية الطاحنة، وإذا كان تاريخ هذه الظاهرة قد استهوى أستاذ الهندسة المصري حنفي محمود، وأبدع في رصد وتحليل عشرة نماذج منها في كتابه، إلا أننا لا نكاد نعثر إلا على عدد محدود من المحامين والقضاة ممن استهواهم رصد تلك الظاهرة بعد تقاعدهم، وهم في تقديرنا الأجدر في الإحاطة بها وتوثيقها من خلال امساكهم بقضاياها، شريطة امتلاكهم مبضع التشريح الموضوعي، كما لمسناها عند المؤلف.
الجميل في الكتاب أن مؤلفه لم يفته التنويه بانتقال هذه الظاهرة المرضية من الوسط الفني إلى الأوساط الثقافية والسياسية والفكرية والإعلامية، وإن لم يتوسع فيها.
ففي ميدان الشعر بعالمنا العربي، فكم من شاعر استبدت به الغيرة من شاعر بعينه وجد فيه تهديداً على نجوميته المتفردة، وكم من ناقد وقع في أسر الغيرة من ناقد آخر لنفس السبب، أو استهدف بنقده الحاد مبدعاً بعينه؛ لأسباب مزاجية غير موضوعية. وكم من روائي اخترقت مناعته هذه الآفة وضعفت هزيمتها، وقس على ذلك في مجالي المسرح والسينما.
أما في ميدان السياسة والإعلام في عالمنا العربي فحدث ولا حرج من نماذج مرضية لا تُعد ولا تحصى ممن ابتلوا ومجتمعهم بهذه الآفة، وتكتشفها إما كامنة يفهمها اللبيب أو بارزة لعامة القراء، فكم من كاتب عربي عد نفسه لا يقل عظمة عن كبار الكتّاب الذين يُشار إليهم بالبنان، وكم من كاتب مثقف توهم وعد نفسه أو روّج بأنه مفكر كبير، فساوى نفسه - تحت تهوس جنون العظمة والنرجسية - بكبار المفكرين العرب المعروفين بمؤلفاتهم البحثية العديدة، والمشهود لهم فيها بالإسهامات الفكرية المتميزة، في حين لا تعدو إسهاماته التأليفية سوى تجميع لمجموعة من نصوص مقالات صحافية أسبوعية أو مقالات ودراسات في مجلات شهرية أو دورية، أو حتى أعمدة يومية يختارها المؤلف "المفكر" بانتقاء، ومن ثم يعيد صياغتها بإحكام وبطريقة بارعة أنيقة تحاكي البحث العلمي، لكن دون أن تحمل أية مضامين جديدة. وينتابك العجب إذا ما تبدت آفة الغيرة على بعضهم - لا كلهم - من كاتب أو مثقف بعينه دون سواه. أما إذا انتقلنا لظاهرة الغيرة في الإعلام، فكم من كاتب انتابته الغيرة الشديدة من كاتب آخر زميل، ونجح في تأليب رئيس المؤسسة الإعلامية العربية عليه فوصل الأمر بالأخير تحت تأثير ذلك التأليب المنهجي المستديم إلى فصل الكاتب المستهدف فصلاً تعسفياً بلا مبرر، وكم من مؤسسة إعلامية نجحت في أن تجر نظيراتها في البلد العربي الواحد إلى معارك قبلية تحت تأثير ذات الداء؛ إما للخوف من منافستها في التفرد بالبروز عند القراء، أو لأسباب تجارية أو سياسية، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. وكم من حزب عربي انتابته الغيرة من حزب آخر، وعلى الأخص إذا ما عده منافساً خطيرا له داخل التيار الواحد المشترك، سواء قوميا كان أم إسلاميا، يمينيا أم يساريا أم بين بين، حتى وصلت الآفة المرضية ببعضهم إلى غرس أسنة أقلامهم في لحم المستهدف بالاسم ممن يعتبرونهم "سقطوا"، متجاهلين أن ظاهرة السقوط تعرفها كل الأحزاب العربية على اختلاف تياراتها بما فيها أحزابهم، فيما يتجاهلون كلياً التشهير - ولو من باب الموضوعية والنقد الذاتي - بمن سقطوا في صفوفهم، وذلك تحت تأثير عواطف غضبهم أو ثأرهم القبلي الجامح المزمن المكتوم، أهمية الاحتفاظ بشعرة معاوية وخطورة تقطيع كل جسور العلاقة مع خصومهم الأحزاب الأخرى من نفس التيار.
وأخيرا فإذا ما انتقلنا إلى مجال العلاقات الدولية أو المجتمع الدولي، فإن ظاهرة غيرة دولة من دولة أخرى فهي قديمة تاريخياً قِدم نشوء المجتمع الدولي ويحتاج رصدها إلى عشرات المجلدات، بالمعنى الحرفي للكلمة.
كاتب بحريني