في المقال السابق تناولنا إلى أي مدى من استخفاف واحتقار - غير مسبوق تاريخياً في العالم - مارسه الصدريون تجاه البرلمان إثر اقتحامهم إياه، بالرغم من كونه الرمز الأول للسلطة التشريعية، غير عابئين بما لهذه السلطة ورمزها المكاني من حصانة وحُرمة، وشاهدنا أن الغالبية العظمى من المعتصمين هي من فئة الصبيان والشباب الرعاع، وغالبيتهم - كما يبدو من تصرفاتهم وكلامهم - متسربون من التعليم، فضلا عن الأميين الكبار، وهؤلاء جميعاً أطلقت لهم الحرية للتعبير عن إبداعاتهم في التمثيل الهزلي عن أدوار النواب، ناهيك عن أعمالهم الصبيانية الأخرى المقززة، ومع ذلك وصف زعيمهم الروحي ما قاموا به “ثورة تحررية” للمنطقة الخضراء قام بها “الشعب”، في حين أن الشعارات الجديدة التي أضافها وأنصاره، ومنها رفض المحاصصة الطائفية ومحاسبة الفاسدين، إن هي في الأصل إلا مطالب الانتفاضة الشعبية التشرينية في 2019 التي أطاحت بحكومة عادل عبدالمهدي المتورطة في أعمال القمع الوحشي بحق شبابها، ناهيك عن القناصة والقتلة من أتباع إيران في الداخل، ما دفع المنتفضين لاحقاً إلى إضافة مطلب الكشف عن قتلة الانتفاضة ومحاسبتهم، وهو ما لم يضفه التيار الصدري إلى مطالبه المستمدة من الانتفاضة، بالرغم من اندساس بعض أمهات وذوي شهداء الانتفاضة إلى صفوف المعتصمين في البرلمان بغية إعادة التأكيد على مطالبهم بتعقب القتلة ومعاقبتهم والكشف عن مصير المخطوفين.
وفي المقابل لم يكن “الإطار التنسيقي” وزعيمه الأبرز نوري المالكي، المتهافت بشدة على عودته للسلطة، أقل تورعاً في الاستهتار بكل ما يمس مقتضيات وأسس الدولة الديمقراطية العصرية بصلة، والتي مازال العراق يراوح مكانه دون بنائها، بفضل ممارسات قوى الإسلام السياسي في السلطة، والتي مهد لوصولها إليها الاحتلال الأميركي، فأتباع المالكي وزعامات “الإطار” لم يتوانوا عن احتجاجاتهم الصاخبة ونصب الخيام ضد نتائج الانتخابات الأخيرة باعتبارها “مزورة”، رغم كل الشهادات الدولية بنزاهة نتائجها، ورغم مقاطعة الغالبية العظمى من الناخبين لها! وهكذا فإن ما نشهده على المسرح السياسي في العراق هو صراع بامتياز على السلطة ومغانمها بين الطرفين الإسلامويين، تارة باسم الديمقراطية والدستور، وتارات باسم الشعب والإسلام و”المكون الشيعي”، في حين أن الإسلام بريء من ممارسات تُرتكب باسمه، والشعب والمكون لا صلة لهما بما يفعلون باسمهما.