شكل تأسيس البرلمانات نقلة حضارية بشرية لعبور الهمجية وتفادي الصراعات الاجتماعية والحروب الأهلية المدمرة، من خلال انتخاب الشعب ممثليه من مختلف فئاته وتياراته السياسية وتحاورهم بأسلوب حضاري مهما بعدت الآراء والأفكار، فضلا عن ممارسة سلطتهم الرقابية تجاه الحكومات، ومع ذلك ما برح العالم يشهد أشكالاً شتى من أعمال الشغب والانتهاك لحرمته وسيادته في العديد من البرلمانات، سواء من قِبل أعضائه أنفسهم، أو من قِبل محتجين سياسيين يكتفون بالتظاهر السلمي من خارجه، وهذا أقل الحالات سوءاً، لكن ما يشهده البرلمان العراقي منذ غزوة اقتحامه قبل عشرة أيام على أيدي الصدريين فاق كل صور الخيال: فتيان يجلسون على كراسي النواب يحاكون أدوارهم النيابية في الخطابة والاحتجاج ومن بينهم نساء أميات، أبقار أدخلت ورُبطت في حرم البرلمان؛ لتأمين الغذاء للمعتصمين لحوماً وحليبا، قدور للطهي بنيران الحطب، شبان يجلبون صواني الغداء إلى أرضية قاعة البرلمان ويتحلقون للاغتراف منها بالأيدي على الطريقة الشعبية، باعة جائلون لبيع الآيسكريم والعصائر والحلوى، شباب يدخنون الشيشة وبعضهم يرتدي ملابس غريبة لا هي رجالية ولا نسائية، خبازون يعجنون الطحين، حلاقون يحلقون الشباب المعتصمين تطوعاً وحسب أذواقهم، "هوسات" لعشائر عربية متعددة الأسماء، مواكب عزاء متعددة ورواديد وقراءات حسينية بما لا يليق بمقام شعائر الحُسين (ع) ولا حرمة البرلمان، وهذا غيض من فيض ولا يتسع المقام لتعداد كل ما جرى من مهازل غير مسبوقة تاريخياً في غوغائيتها وبربريتها اللاحضارية.
ولم يكن الطرف الآخر المتصارع مع الصدريين، ألا وهو "الإطار التنسيقي" الذيلي لطهران أقل بربرية وغوغائية، بل لعله استبق الأول في بزه بها بطريقة استعراضية، كما أظهرها خصوصاً وجهه البارز نوري المالكي، بطل فضيحة تسليم الموصل لداعش بدون مقاومة خلال رئاسته الحكومة، والذي يُعد من أبرز وجوهها الفسادين إبان عهده وما بعده، بدءاً من ظهوره حاملاً رشاشه بصحبة أفراد من ميليشياه، وليس انتهاءً بالتسريبات الفاضحة لمخططه الإرهابي بتغيير المعادلة السياسية الهشة القائمة لصالح "إطاره". ولكي تكمل الملهاة صورتها الإبداعية، فإن كل ما جرى من الطرفين تم باسم الشعب والديمقراطية والحسين والدستور! خصوصاً من قِبل المالكي، فيما الشعب المثخن بالجراح في غياب تام عما يجري.
والمثير للدهشة أن كل ذلك يجري أيضاً في ظل صمت مطبق مريب من قِبل إيران صاحبة النفوذ الطاغي بين قوى الإسلام الشيعي المتناحرة، ولاسيما الإطار التنسيقي بميليشياته المدعومة مالا وسلاحا من قِبلها، كما يحدث ذلك فيما الشعب لا يئن من مختلف المآسي المعيشية التي تسببت فيها تلك القوى المتنفذة في الحكومات المتعاقبة الفاسدة فحسب، بل مازال يلح في المطالبة بمحاكمة الفاسدين وقتلة الانتفاضة الشعبية التشرينية 2019. وإذ لا يجدون غضاضة وهم يمارسون تلك الموبقات باسم الشعب والدستور والديمقراطية، فإنهم لا يمثلون حتى ربع المكوّن، يتباكون بمظلوميته وأساءوا إليه أمام العالم، فيما الشعب الذي يتحدثون باسمه لا يملك سوى التفرج الأليم على بلواه الجديدة الأليمة ممثلة في صراعهم الذي ينذر باندلاع حرب أهلية طاحنة يطاله خطرها، ولا ناقة له ولا جمل فيها، وكلاهما يوجه إلى الآخر الدعوة الكاذبة للحوار فيما لغة الحوار الفعلية هي من يكسّر عظام الآخر أولاً ليرضخ له، بينما يوجد مخرج وسط عقلاني لأزمتهما طُرح من قِبل "قوى التغيير الديمقراطية" التي تتكون من 11 حزباً، ومن أبرز نقاطه: حل البرلمان، وتشكيل حكومة ذات قبول شعبي وتشرع في محاسبة قتلة المتظاهرين والكشف عن مصير المغيبين، وتحريك ملفات الفساد وتقديم الفاسدين للعدالة، وتحسين معيشة المواطنين من الفائض المالي، ورعاية الانتخابات بإشراف أممي، ورعاية أيضاً حوارات سياسية.
لكن هذه النقاط الواقعية العقلانية، والتي مطلوب طرحها أياً كان الأمر، لا تملك للأسف فرصة تنفيذها قريباً في ظل تسيّد المتنفذين وأباطرة الفساد المستفيدين من المحاصصة على الساحة السياسية، اللهم إلا إذا تمكن أصحاب المبادرة من استقطاب أوسع قاعدة شعبية ممكنة في المدى القصير تفتح المجال لاندلاع انتفاضة شعبية أقوى من سابقتها لتطيح بأولئك المجرمين أباطرة المحاصصة والفساد الذين عاثوا فساداً وإجراما طويلا في العراق، وهي مهمة ليست هينة للأسف، لأن هؤلاء لن يسلموا أسلحتهم طواعية ولو كلفهم ذلك الخوض في دماء الشعب حتى أركابهم!