مازالت الولايات المتحدة تتمتع بأكبر امبراطورية إعلامية في العالم ذات وسائل وتقنيات بالغة التطور، بل مازالت السباقة دوماً في تطويرها، وبالتالي لا تستطيع غريمتها روسيا بأي حال مجاراتها في الحرب النفسية الإعلامية الدائرة رحاها حالياً حول أوكرانيا بينها وبين أميركا وحلفائها الغربيين، فالإعلام الأميركي ما انفك يعمل بأقصى طاقته للتهويل من حجم الحشود العسكرية الروسية على حدودها مع أكرانيا؛ بغية بث ذعر أوكرانيا وأوروبا والعالم بأسره من خطورة الحشد. في البداية قدرت واشنطن تلك الحشود بنحو 100 ألف جندي روسي، ثم رفعت الرقم إلى أكثر من 100 ألف، ثم رفعه الرئيس بايدن أخيراً إلى 150 ألف جندي! يجري ذلك في ظل تصعيد سياسي وإعلامي محموم متبادل بين الجانبين، وإن كانت المعركة الإعلامية تميل كفتها لصالح واشنطن للعامل الآنف ذكره، حتى بلغ الهذيان الإعلامي ذروته بأن حددت أميركا موعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 16 فبراير.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن لا وجود لحشود عسكرية روسية، لكن المؤكد ليست بالصورة المضخمة من قِبل أميركا، وهذا ما تقر به أوساط سياسية نافذة داخلها لا تخفي معارضتها التصعيد وتوريط البلاد في حروب خارجية جديدة، فحسب تقرير لبي بي سي نُشر أخيراً فإن ناخبين من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي والذين تجذبهم شخصية الرئيس الروسي بوتين يسعون إلى إفشال خطط الرئيس بايدن نحو تصعيد الأزمة الأوكرانية، ويشاركهم في ذلك ناشطون من اليمين المتطرف واليسار يتهمون بايدن بأنه هو من يقرع طبول الحرب في أوروبا، دع عنك صقور الحزب الجمهوري المعارضين لإدارة بايدن، وصرح أحدهم (جوناثون اريكسون): لسنا بحاجة للتدخل في كل نزاع صغير، بينما أبدى الإعلامي الكبير سهراب أحمري تفهمه لمخاوف روسيا من حشود "الناتو" على حدودها مع البلدان المجاورة لها والتي كانت حليفة لها قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. والواقع أن هذا الوضع الجيو سياسي الناشئ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991 شكّل ومازال يشكل جرحاً غائراً لكبرياء القطب الروسي، وبرز بوجه خاص منذ تولي الرئيس القوي الحالي فلاديمير بوتين الحكم مطلع الألفية.
والحال أن الولايات المتحدة سعت ومازالت تسعى بكل قوة لتعزيز غنائمها من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي التي انتهت بهزيمة تاريخية مُذلة لهذا الأخير، وما فتئت تعمل حثيثاً على تقويض مصالح وريثته روسيا، فلم تكتفِ بضم أكبر عدد من الدول الاشتراكية السابقة، من ضمنها جمهوريات الاتحاد السوفييتي، إلى حلف الناتو، بل وإمعاناً في إذلال روسيا وتحجيم نفوذها عملت على إنشاء قواعد وحشد قوات لها على حدود تلك الدول مع روسيا؛ بما يهدد أمنها القومي فعلياً - كقوة عظمى - كما عملت أيضاً على تخويف حلفائها الأوروبيين - خصوصاً ألمانيا - من تبعات اعتمادها على الغاز الروسي - سياسيا واقتصادياً، وبهذا فإنها لم تتخل عن نظرتها الفوقية إليها كدولة مهزومة غير ندة، دون أن تحسب لمصالحها أدنى حساب، حتى اشتدت الأزمة الأوكرانية الأخيرة على خلفية تبعات أزمة ضم روسيا -مجروحة الكبرياء - شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، فأخذت تعمل بلا كلل على ترغيب أوكرانيا، وهي أكثر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق تربطها علاقات تاريخية ثقافية واجتماعية ومصاهرية مع روسيا منذ العهد القيصري، للانضمام بدورها للناتو.. وإمعانا في التصعيد وتصوير الغزو بأنه بات وشيكاً وواقعا لا محالة سحبت دبلوماسييها منها.
والحال أن الرئيس بايدن له مصلحة من التصعيد مع روسيا للتعويض داخلياً عن هزائمه وإخفاقاته المتعددة خلال سنة واحدة فقط من حكمه، وأخطرها الانسحاب الفوضوي المذل لبلاده - كقوة عظمى - بقيادته من أفغانستان والذي فاقم من مآسي هذا البلد بوصول طالبان للسلطة قبل إتمام الانسحاب نفسه! في حين أن الرئيس الروسي قد يجد بدوره ضالته في هذه الأزمة إذا ما خرج منها منتصراً لتعزيز شعبيته - كبطل قومي - لإعادة ترشيحه في الانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة 2024 والفوز فيها.