العدد 4702
الأحد 29 أغسطس 2021
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
أميركا في أفغانستان: انسحاب أم هزيمة؟
الأحد 29 أغسطس 2021

بانسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان، تسدل الولايات المتحدة الأمريكية حربها على الإرهاب التي لم تنته. وعندما بدأت الولايات المتحدة الامريكية حربها على طالبان والقاعدة والجماعات الجهادية فيها آنذاك قال الريس الأمريكي الاسبق جورج بوش الابن “هذه المعركة ستأخذ منا بعض الوقت وتنتهي.. وأنا كلي ثقة أننا سنكون الطرف المنتصر فيها”. وبعد عقدين من الزمان.. أجبرت واشنطن وبسبب الكلفة الاقتصادية والبشرية على الانسحاب. وهو انسحاب أو فشل قد هللت له أصوات في كثير من المواقع في العالم. فالبعض قد قال عنه هزيمة، وآخرون وهم القلة قد وجدوه انسحابا. فكيف فسرت الولايات المتحدة هذا الانسحاب وأسبابه (مجلة فورين أفيرز، عدد، سبتمبر- أكتوبر 2021). يقول الرئيس الأمريكي جو بايدن إن الهدف من الدخول أو الاحتلال الأمريكي لأفغانستان العام 2001، لم يكن التأسيس لدولة حديثة أو الإقامة نظاما ديمقراطيا، وإنما كان الهدف من الاحتلال الأمريكي الدفاع عن الأمن القومي الأمريكي. وهو احتلال أو دخول قد شجع بعد سنتين، الولايات المتحدة باحتلال العراق، بل إن احتلالها أفغانستان الذي جاء سهلا في بادئ أمره قد يكون سببا مشجعا لاحتلال العراق. وهو احتلال لم يقد أبدا، كما أُعلن في بادئ أمره، للتأسيس لحالة من الاستقرار السياسي في العراق أو إلى تأسيس الديمقراطية أو تحقيق نهوض اقتصادي واجتماعي. بل إن هذا الاحتلال قاد لحالة من الفوضى السياسية والأمنية لم يهدأ العراق منذ حينها. كما أن احتلالها هذا قد قاد إلى قدر من اللاتوازن في حالة الأمن الإقليمي في المنطقة بشكل عام.

إن ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية للإقدام على ذلك هو تصورها أو بالأحرى تصور التيار السياسي المحافظ فيها أن هذين الاحتلالين قد يقودان إلى تشكيل نماذج سياسية واقتصادية جديدة تؤثر في محيطها الجغرافي. وبالتالي التأسيس لحالة جديدة من الحداثة والتنمية تفتقر إليها المنطقة العربية والإسلامية، وهو اعتقاد لم يقُد إلا إلى خيبات سياسية واقتصادية والتأسيس إلى الدولة الفاشلة في المنطقة.

فتجربة الصعود الاقتصادي والسياسي في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية كانت قد مثلت حينها لحظة تاريخية لم تتحقق بذات الزخم في أوروبا الشرقية بعد سقوط أنظمتها الشمولية في تسعينات القرن الماضي. كما أن التجربتين الآسيويتين الناجحتين في الصعود الاقتصادي هي التجربة اليابانية والكورية الجنوبية. وهي تجارب لم تتكرر مرة أخرى في آسيا بعد ذلك. فالتأسيس مثلا لنظام من الملكية الدستورية في اليابان وإقامة نظاما ديمقراطيا متطورا اقتصاديا في كوريا الجنوبية ودعم صعود تايوان كنظام مستقر سياسيا ومتطور اقتصاديا كانت كلها بفعل التدخل الأمريكي، الذي جاء في سياق تاريخي وسياسي وثقافي داخلي مختلف عن السياقات الشرق أوسطية ذات الأنماط السياسية والثقافية الساكنة وذات السياق الاجتماعي ولربما الديني المؤكد لحالتها السكونية، والمؤكد كذلك لاستمرارية ذات الأنماط والممارسات عبر الزمن. وهي كلها سياقات أفشلت محاولات الروس في إقامة حداثة غربية في أطر ماركسية في أفغانستان، كما أنها ذات المعطيات التي أعجزت الولايات المتحدة الأمريكية عن إقامة نموذج المجتمع الحداثي الغربي، في مجتمع بدت الرابطة القبلية ولربما الدينية قادرة على إفشال محاولاتهم، دون إدراك أو وعي لأسباب السقوط الروسي قبلهم، بل دون وعي بأن هذا المجتمع منذ الإطاحة فيه بالنظام الملكي في سبعينات القرن الماضي، لم يخلد للاستقرار. فالسنوات التي خلت بعد ذلك، مرورا بالتدخل السوفيتي، ثم سنوات الحرب الأهلية المدمرة، وبعدها صعود طالبان للسلطة، كلها تشي بمعضل اجتماعي سياسي عميق قد تشكل فيها مع رحيل النظام الملكي، الذي كان ماسكا بقدر مهم من توازن هياكلها الاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، والذي اهتز مع أول محاولة للعبث بآليات توازنه. وهو اهتزاز لم يستقر مع أي محاولة تغيير سياسي جذري في نظامها السياسي وبنائها الاجتماعي، فطبيعة البناء الاجتماعي-الاقتصادي القائم بدا عاجزا عن التكيف مع محاولات الحدثنة التي جاءت مفروضة من الخارج من ناحية، وبدا الأفراد، في الأطراف الفقيرة والتقليدية، رافضين للدفع بهم للانسلاخ من أطر قد تشكلوا في سياقاتها قرونا مضت من ناحية أخرى. فانهيار تجارب التحول الاشتراكي في اليمن الجنوبي وبعدها في  الصومال، كما هو فشل الولايات المتحدة الأمريكية في إقامة نظاما ديمقراطيا حديثا في العراق أفضى إلى شكل من نظام المحاصصة العشائرية والمذهبية غير القادرة على أحداث قدرا من التوافق المجتمعي حولها. فدخل العراق، منذ حين، في حالة من الفوضى وفي حالة من النكوص الاجتماعي والثقافي، اُستدعي فيها كل أشكال الأطر التضامنية التقليدية وأنماط مختلفة من الثقافة الخرافية. وهو استدعاء لعبت فيه القوى السياسية - الدينية الجديدة، بكلتا ضفافها ولأغراض سياسية، دورا كبيرا في إذكائه.

نقول ذلك رغم إدراكنا من أن جيلا جديدا في أفغانستان وتحديدا خلال العقدين الماضيين، وفي مراكزه الرئيسية قد تأثر بالحداثة التي جاءت مع الحضور الأمريكي والغربي في مدنه الرئيسية. وهو جيل قد بدا ميتما بعد الرحيل الأمريكي، لا يحمل خيارا غير التكيف مع الحالة الجديدة التي قد يأتي معها قدرا كبيرا أو صغيرا من التقييد والموانع الاجتماعية أو الهجرة.

إن حالة النكوص السياسي والإخفاق الاقتصادي والاجتماعي الذي جاء على المنطقة العربية خلال العقود الأربعة أو أكثر الماضية، يؤكد أن عملية النمو في هذه المنطقة أو بعض أقاليمها، لا تخضع لقاعدة التراكم المتعاظم، وإنما لحالة من التذبذب، الذي يأخذها حينا للصعود وأحيانا أخرى يهوي بها إلى القاع.

فحالات دول مثل سوريا والعراق وليبيا والصومال ولربما غيرها، إن هي إلا أمثلة مؤكدة للحالة التالية وليس الأولى. ولهذه الأسباب بدت المنطقة عاجزة عن تحقيق اختراق اقتصادي ومعرفي كما في بعض الحالات الآسيوية.. وغيرها.

لقد اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية للنظر للدول والمجتمعات التي تخضع لاحتلالها العسكري ليس على أساس التبعية السياسية ولربما الاقتصادي، وإنما لمحاولة استنساخ بقدر كبير نموذج التجربة الأمريكية فيها. أي خلق حالة من التماهي السياسي والثقافي والاجتماعي بين المحتل (بفتح الفاء) والمُحتل (بضم الفاء). وهي تجربة قد مرت على كل المجتمعات التي خضعت لقدر كبير من الاحتلال العسكري الأمريكي. وقد بدا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان في سنواتها الأولى مستتبا خصوصا بعد القضاء على المعاقل الرئيسية لطالبان وجيوب القاعدة. إلا أنها، بدأت وخصوصا في النصف الثاني من سنوات احتلالها تواجه قدرا من الممانعة والمقاومة العسكرية والثقافية، وهو الأمر الذي بدا متزايدا مع مر السنين. وهي ممانعة تتصاعد في الأطراف عنها في المدن، وإن كانت بعض المراكز الحضرية الرئيسية مركزا لهذه الممانعة، وأصبحت الولايات المتحدة غير قادرة على تحمل تبعات ومصاحبات لاحتلالها، ليس فقط عسكريا، ولكن هو كذلك اقتصاديا ولربما اجتماعيا. فما كان لها غير خيار الانسحاب. وهو انسحاب قد فسر على أنه هزيمة جديدة للولايات المتحدة في وجه قوة عالم ثالثية “متخلفة”. وهو ما رفع من درجة القلق عند حلفائها حول العالم. وهي مخاوف قائمة على فكرة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حماية حلفائها حول العالم، وذلك ما يجانب الواقع. إذ ستبقى الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم رغم بعض ضمور القوة التي جاء عليها. كما أنها ليست المرة الأولى التي تبدو فيها الدول العظمى غير قادرة على تحمل تبعات احتلالها. فهي قد واجهت ذلك في فيتنام في ستينات القرن الماضي وأجبرت على تقليص قوتها وبشكل كبير في العراق وغيرها، إما لأسباب متعلقة بحجم تكلفته الاقتصادية أو بسب تزايد المقاومة العسكرية لوجودها العسكري.

وما نريد التأكيد عليه هنا، أن عودة طالبان لحكم أفغانستان، هي عودة لها مصاحباتها على الداخل الأفغاني، ولربما كان أولها رغبة المغادرة لقطاع كبير من الأفغان، الأمر الذي بدا مهددا بعودة مشكلة المهاجرين لعدد من دول الجوار الأفغاني كما هي أوروبا، كما أن ذلك يعكس حقيقة أن عقدين من الاحتلال الأمريكي لم يُحسن كثيرا من مستويات الدخل فيها، أو أن تكون عودة طالبا مصحوبة بحملة من الانتقامات لمخالفيها أو رجالات النظام السابق أو أن تدخل طالبان في صدام مع قوى إسلاموية أخرى وتحدي الإسلاموية الجهادية التي متوقع أن تقود حملة عمليات تقود لاهتزاز الوضع الأمني الداخلي.. بالإضافة إلى أن للحالة الطالبانية الجديدة ارتداداتها على محيطها الإقليمي. فطالبان رغم كل ما قيل أنها عائدة بفكر وأفق جديد، فإنها ستبقى محكومة بأطرها الأيديولوجية الإسلاموية، والتي قد تلتقي في أحد أبعادها الإسلاموية مع إيران، إلا أنه تتنافر معها مذهبيا. وهي عودة قد هُلل لها بعض من الرموز الإسلاموية في دول الاقليم العربي، وهو ما يشي بأن ذلك قد يشجع على إعادة إحياء الجماعات الإسلاموية التي تلقت منذ الربيع العربي ضربات قد أنهكتها، أو أنها قد تعيد إحياء، ومن جديد، الخلايا النائمة للقاعدة وجماعات داعش في العراق وسوريا. فكما هو واضح أن عودة طالبان للسلطة قد ذهبت أصداؤها لما هو أبعد من محيطها الجغرافي القريب. وهي عودة قد تكون جديدة في بعض من ممارساتها والتي تحكمها بعض التغيرات التي جاء على بعض الداخل الأفغاتي كما هو على العالم.

وفي الختام، فإنه قد يكون صحيحا أن البشتون كجماعة اجتماعية قد ينتمون للمذهب الحنفي ذي مسحة أشعرية، والمنتشر بين مسلمي جنوب آسيا، إلا أنهم وبفعل تأثيرات الحرب الأهلية الأفغانية ومرحلة طالبان، قد تأثرت بالسلفية الجهادية ولربما المتشددة التي مثلت عصب قوة الجماعات الإسلاموية في تسعينات القرن الماضي. وهو ما شكل النموذج الجديد لحنفيتها الآسيوية. وهي في ممارساتها متجاوزه لأصول النشأة الحنفية والنزعة الأشعرية. وأن قدرا من التشدد سيشكل بعض ممارسات السلطة الجديدة في أفغانستان، بفعل ثقافتها السياسية والأيديولوجية ذات الجذور المتشددة، رغم بعض التغير الذي جاء عليها وهو تغير قد فرضته الواقعية السياسية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .