العدد 4674
الأحد 01 أغسطس 2021
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
التكلفة الثقافية لجائحة الكورونا
الأحد 01 أغسطس 2021

لم يخبر العالم بكل قطاعاته ودوله تجربة كتجربته في مواجهة جائحة كورونا. فهي قد أعادت تشكيل شبكة علاقات الأفراد الاجتماعية كما هي قد حدت من فاعلية قطاعات كثيرة كانت فاعلة في المجتمع. وأضعفت من قدرات الأنظمة السياسية على المبادرة، بل وأضعفت قدرة البعض منها على مواجهة الجائحة، وبدت الدول إلا القليل منها عاجزة عن السيطرة على انتشار المرض، ولربما تطرح تجربة الهند وبعض الدول العربية كتونس وغيرها، في مواجهة المتحور الهندي (دلتا)، تضاؤل قدرة الدولة على مواجهة الفيروس. وتحكي قصة انهيار الأنظمة الصحية صورة مؤلمة بما  أحدثته الجائحة من كارثة ولربما أكبر من كارثة في بعض المجتمعات.

ووفق تقديرات جامعة جون هوبكنز الأمريكية حتى شهر يولية لعام 2021، أن الجائحة قد أودت حتى الآن بحياة أكثر من أربعة ملايين شخص وأكثر من200 مليون أصابة (هناك بعض التقديرات غير الرسمية وغير المؤكدة والتي تداولتها بعض المواقع الإخبارية ومواقع السوشيل ميديا، والتي تقول إن المتحور الهندى قد يكون حصد في الهند أكثر من ثلاثة ملايين شخص وفي بعض الأخر يقدرها بأربعة ملايين). فالفايروس كما يبدو بات قادرا وفي عجز كثير من المجتمعات على توفير ونشر اللقاح بين سكانها بشكل يفوق حاجز 70 %-80 %، فإن الفايروس سيعود إلينا كل مرة بموجة أقوى وأشد فتكا. فتجارب النجاح في بعض المجتمعات في محاصرة الفايروس أو في نشر اللقاح، باتت الآن كما تقول مجلة الفورين أفيرز في عددها الأخير، يواجه من جديد تحدي إعادة الانتشار.

وهذا لا ينطبق فقط على الدول التي طبقت إجراءات صارمة في التباعد الاجتماعي والحجر كتايوان وفيتنام وإنما دول كانت ناجحة في نشر التلقيح بين سكانها لعدد يفوق 70 % كما هو حال بعض دول الخليج. مما يعني أن الفايروس كما الفيروسات الأخرى بات قادرا للعيش بيننا وإعادة إنتاج نفسه بموجات جديدة، لربما لأجيال قادمة، وأن مواجهته لم تعد متعلقة فقط بالإمكانات المادية والفنية المتاحة وإنما في قدرة الدول والمجتمعات على صياغة استراتيجيات بعيدة المدى وإدارة قادرة على مواجهة الأزمة. فكلما كانت عمليات تلقيح السكان متباطئة ساعد ذلك على انتشار الوباء، وكلما كانت معرفتنا أكبر بأي اللقاحات أفضل لأي المتحورات كان المجتمع قادرا على محاصرة الوباء ومنع انتشاره. ولا أعتقد أننا قادرون على تجاوز الجائحة قبل عام 2024 ولربما لن تعود الحياة إلى طبيعتها السابقة قبل عام 2026. (مجلة الفورين أفيرز عدد يوليه-أغسطس2021).

ولم تعد الجائحة محصورة في آثارها الصحية والاقتصادية بل هي قد أصابت كل أوجه الحياة المختلفة الاجتماعية والثقافية والسياسية. وأن عمق تأثيرها بات يطرح تساؤولات حول مستقبل الثقافة الاجتماعية التي استقرت عليها حياة المجتمعات لعقود إن لم يكن في بعضها لقرون من الزمن. فمصاحبات الجائحة هي من العمق الذي لا تبدو العودة إلى المرحلة السابقة لها ممكنة على الأقل في المستقبل المنظور. فجل النشاط الثقافي الذي كانت تقوم عليه الكثير من اقتصادات العالم وينخرط في إنتاجه مئات الملايين من البشر حول العالم قد توقف في بعضه توقفا كاملا. بل إن ثقافة العمل التقليدية القائمة على أدائه في مكان العمل، وبفعل الجائحة، قد تغيرت مضامينه التقليدية تغيرا كبيرا. وأن فكرة إنجاز العمل عن بعد، والتي بات أداء الكثير من الأعمال تتم من خلالها، تطرح تساؤلات حول حجم إنتاجيته في ظل الجائحة، بل إن فكرة الذهاب إلى العمل من أجل الرزق التي تشكلت عبر هذا التطور الإنساني هي الأخرى مطروحة للتغير، وهو تغير مازال في مخاضاته الأولى التي قد لا ترتقي لأن تحدث تحولا مهما في فكرة العمل وطبيعته ووظيفته الاجتماعية التي من خالها باتت تنسج الكثير من العلاقات والتشكيلات الاجتماعية. وبالمثل باتت تطرح الآن تساؤلات حول إنتاجية التعليم عن بعد وقدرته على تزويد الداخلين فيه بالمهارات الثقافية والمعرفية والعلمية المطلوبة. والتي بات أكبر ضحاياه فئات ذوي الحاجات الخاصة الذين يحتاجون فيه إلى قدر من التفاعل المباشر أفقدهم أياه التعليم عن بعد. فتدهور نتيجة لذلك تحصيلهم كما تدهور تحصيل الآخرين. فانتشر نتيجة له ظاهرة تقاعس بعض أعضاء هيئة التدريس عن أداء واجباتهم التدريسية على أكمل وجه نتيجة لأسباب عدة قد يكون منها ضعف القدرة على تطويع الأدوات التكنولوجية الجديدة للعمليةa التدريسية. كما انتشرت في أوساط الطلبة ظاهرة التغيب المتكرر عن الحضور وفي انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات، وضعف التقنيات الجديدة عن ضبطه أو الحد منه.

من الناحية الأخرى، فإن الكثير من الأنشطة الثقافية كالعروض المسرحية والموسيقية والمعارض الفنية والعروض السينمائية قد توقفت أو قل مرتادوها حتى مع افتتاحها الجزئي.. كما أن تلك العروض الفنية الفردية التي تقام بصورة غير رسمية في الفضاءات المفتوحة وفي الحدائق العامة قد تم توقيفها وانقطع عن أفرادها مصدر كان يدر عليهم بعض الرزق. وأن الكثير من المسارح والفرق الموسيقية الخاصة قد خرجت من السوق، وبعد عام وأكثر من نصف العام من الجائحة، أصبحت هذه الفرق غير قادرة على تحمل التكلفة المالية الباهظة لهذا التعطل. وأن تراكم الديون على بعضها قد عرض بعض أفرادها إلى المساءلة القانونية لا يبدو أنها ستنتهي.

من الناحية الأخرى، فإن هوس وشغف الناس بارتياد المتاحف والمسارح والعروض الفنية والموقع الأثرية قد توقف إن لم يكن قد انتهى. وتغيرت معها عادة تناول الطعام في الخارج، والذي على أساسها تأسست سلسلة من المطاعم الإثنية والقومية على مستوى العالم، والتي استقطبت على مر السنين الماضية الكثير من السياح والمسافرين. فانقطع السياح عنها وانقطع بالتالي مجال رزقهم ولربما تخلخلت منظومة علاقاتهم الاجتماعية التي تشكلت خلال السنين الماضية. وهي قطاعات سياحية غير رسمية، كانت تعيش على وفرة من السياح قد توقفت عن العمل، وباتت عودتها مع إطالة مدد الإقفال بسبب الجائحة لا تبدو قريبة.    

كما توقفت نتيجة للجائحة المعارض الثقافية المختلفة التي قد يتمثل بعضها في الأسابيع الثقافية وفي معارض الكتاب السنوي والتي كانت عند البعض فرصته الوحيدة في اقتناء الكتاب الجديد أو في الالتقاء بكاتبه. وتضررت نتيجة لذلك الكثير من دور النشر العربية التي كانت هذه المعارض تمثل مصدر أساسيا للدخل، فأصبح الكثير منها حتى الكبيرة، مهددة بالخروج من السوق الذي عملت فيه لعقود من الزمن.

ولم يحظ هذا القطاع، أي الثقافة، بمختلف مجالاتها ومستوياتها، كما حظيت بعض القطاعات الاقتصادية، على دعم مالي كبير فاقت في بعضها وتحديدا في الدول الصناعية الكبرى المئات من المليارات من الدولارات. ولذلك، فإن مؤسساته قد أصبحت مهددة بالخروج إن لم يخرج منها الأضعف والأصغر.

وفي المقابل، فقد استمرت بعض أنشطة المنظمات المجتمع المدني التوعوية والثقافية عن بعد، وهي أنشطة في معظمها تدخل في إطار الإنشطة التوعوية، إذ ساعدت الجائحة على الإكثار من أنشطتها الافتراضية التي افتقدت “لحميمية” اللقاءات الثقافية الواقعية. إذ أفقد فعل التباعد الاجتماعي، رغم أهميته، عنصرا أساسيا ومهما في هذه اللقاءات والأنشطة. فالسيولة الاجتماعية التي باتت عليها الحياة الجديدة في مناحيها المختلفة وفي الكثير من المجتمعات تشكل أحد أوجه الثقافة الاجتماعية الجديدة العابرة للحدود والتي بفعل الجائحة قد جُففت مياه أنهارها إن لم يكن قد شلت.    

أما على صعيد الثقافة الشعبية، فإن الكثير مما قد يدخل في الممارسات الفولوكلورية الشعبية، الاجتماعية منها والدينية  والتي اعتاد الناس ممارستها جماعيا، باتت مجمدة أو تم تقليصها، وباتت تتم وفق ضوابط احترازية مشددة، أفقدت هذه الأنشطة والطقوس من مضامينها الاجتماعية القائمة على الاجتماع البشري بل والتماهي بين الناس في أدائهم الطقوسي لها. فالممارسات الثقافية الشعبية قائمة على فعل التراص البشري والاندماج الاجتماعي، والذي بانقطاعه ينقطع الفعل الثقافي ذاته أو يفقد وظيفته الاجتماعية القائمة على التفاعل والاندماج.

وانتابت البعض في الكثير من المجتمعات حول العالم رغبة جامحة في كسر حالة المنع، التي بات يمثل إجراء ضروريا لمنع إنتشار المرض. إذ تأتي هذه الممانعة بأشكال وأساليب وأدوات شتى، تارة باسم الدين أو الحريات الاجتماعية أو باسم العادات والأعراف المحلية أو الحاجة الاقتصادية. والتي أصبح كثير من السلطات عاجزة عن مواجهته. فهي ممانعة ترفع في الكثير من المجتمعات الفردية تحت يافطة الحريات الفردية. وهي ممانعة تمثلت في تلك المظاهرات التي اجتاحت الغرب ضد فعل التباعد الاجتماعي والحجر، أو أن تأتي على شكل رفض لأخذ حصن التحصين تحت مبررات بعضها يبدو منطقيا في عرفهم وبعضها وفق تفسيرات خرافية أو وفق تفسير نظرية المؤامرة.

وخلاصة القول إن الثقافة في مضمونها العام تمثل القطاع الأكثر تضررا من الجائحة وهو أحد القطاعات المنسية من أي اهتمام أو دعم رسمي في ظل الجائحة. وإن محاولات البعض ابتداع طرق وأدوات جديدة في التعبير قد أعانت بعض الشيء في استمرار بعض أنشطتها إلا أنها تبقى مع ذلك عاجزة بفضائها الافتراضي في تحقيق أهداف الثقافة القائمة على الاجتماع الإنساني. وهو اجتماع قد تشكلت هذه الثقافة في ضوئه، ولا يبدو أن الأدوات الافتراضية الجديدة قادرة على تحقيقه. فالثقافة في إطارها العام ما هي إلا نتاج لتلك التفاعلات والصراعات التي كان الإنسان محورها في تفاعله مع الآخرين وفي قدرته على أن يجعل من الوجود الإنساني الحقيقة التي تقوم عليها مجتمعاتنا المعاصرة.

 

نقلا عن مجلة البحرين الثقافية عدد 105 يوليه 2021.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية