فكرت طويلًا قبل الخوض في هذا المعترك، هل الفكرة التي تختلي بالمواطن أم إنه الذي يختلي بها، هل هي المسؤولة عن سلوكه، أو المواطن هو المسؤول عن ترويضها بأدواته وموروثه ومكتسباته، هو الذي يستطيع الانتصار على غريزة التملك لدى الأفكار المتربصة، وتلك المتشبثة بالعقل المتردد؟
في النهاية اهتديت إلى ضرورة مكافحة الفكر الضال، بالفكر الصائب، بالماهية نفسها، وبالمضامين ذاتها، بالآليات والأساليب وأدوات التعايش والتجهيز والإعداد لأجيال لم يفلت زمامها.
فكرت مثلًا أن مواجهة الدولة لتيار أو فكرة ضالة كالتي نعتقد في قرار ذواتنا أنها خرافة للخارجين عن الطوع قد استقرت لدى النفر المهيمن عند الخروج على النص، من هنا ارتأينا أن باب التوبة سيظل مشرعًا، وعقيدة الاجتهاد في مواجهة ضلالة “الجهاد” من الضروري إجراء المراجعات الدورية لها.
لكن ولأن المكافحة كحل وسط بين الوقاية التي ربما قد فات أوانها، والمواجهة التي من الممكن وصفها بالمحطة الأخيرة تفرض إلقاء الذخيرة الحية على جانبي الطريق والتنازل عن فكرة حمل المصاحف على أسنة الرماح، والبدء فورًا في تنظيف فوهات المدافع من البارود، وحقول الألغام من المتفجرات، وحقول القمح من خيالات المآتة، وفخاخ العصافير البريئة.
إن عودة الفكر الضال، وقطع الطريق على قوافله المحملة بالكراهية والمرارة لابد وأن يتم ربطه بصيرورة المجتمع، دمجه في سلاسل فكرية أكثر استنارة وتنوعًا، إدخاله في ديمومة الحياة، في حركة الدواب، وفي استكانة التطور المتماهي مع الأشياء.
فكرت مثلًا في دور مجتمعي فاعل، في مؤسسات مضادة للفكر الضال، وفكرت أيضًا في منظومة تعليمية أكثر قدرة على تنوير النشء وتربيته في المهد بحيث لا يقتصر التوجيه على الأجيال التي تستطيع الإدراك بقدر ما تكون الاستدامة هي مربط فرس أي تحرك علمي وأي تقاطر جهوي، وأي اصطفاف مؤسسي، الجميع - تعلم وإعلام وصحافة وجمعيات نفع عام، ومؤسسات لها صفة انعدام القصد بحيث يكون التوجيه مبطنًا في قماشة قابلة للاستخدام من أكثر من توجه، وللتعاطي مع أكثر من نوعية، بل ولتبادل الأفكار معها؛ بهدف تحقيق الكشف المستدام لتوعية الأفكار التي تراود الشباب وتلك التي تتسلل عنوة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
إن شباب اليوم مُعرض للاحتدام أكثر من اليوم الذي مضى، وأنه قابل للاستجابة مع أفكار خارج “السيطرة” القيمية الذي تربى عليها، هو يريد أن يخرج أو يفلت من قيد ثقيل أو من ظل ظليل، أو حتى من وشاح له صفة التهليل والتبجيل.
ربما يكون جيل رافض للتقاليد التي لم يشارك في إرسائها بالمجتمع، ولذلك فهو يدعي أن هذه التقاليد لا تناسب مزاجه الخاص، أو لا تساعده على التفكير بحرية، أو لا تعينه على علاج مشكلة عويصة أثناء تأديته لواجباته اليومية.
إذًا السرعات التي يمضي بها المجتمع في سبيل اللحاق بثورة المعلومات، وبالقوة الخارقة للتقنية والتكنولوجيا الحديثة، هو أمر من الأهمية بما كان بحيث يكون السباق عادلًا، وقوانينه صارمة، ومخرجاته مقبولة، هنا يمكن الحديث بتمعن أكثر عن المكافحة وليست المواجهة، عن السلطة الفكرية الناعمة، وليس عن القدرة الإقصائية الشرسة، المواجهة بعد المكافحة، والوقاية قبل الاثنتين، لكن كيف يمكن للمجتمع أن يتقي شرورا خارقة؟ وكيف يمكن للمؤسسات التي تتكون منها أطر الدولة المتقدمة أن تلين الخطوط العويصة لتصبح أكثر مرونة من ذي قبل؟ وكيف يمكن لفكر متسلل عبر جماعة لها من الخبرات ما قد يجعلها أكثر انسيابا في التحرك نحو عقول متفتحة بطبيعتها، متجاسرة بعنفوانها وشبابها وحيويتها، مستقبلة من كل ما هو وارد من كائن من كان، ومن أي مكان بصرف النظر عن نوع القناع، أو طول الذراع، أو تباين الطباع؟
للحديث بقية.