+A
A-

العصفور.. من الحجر إلى العالمية

الجودة لا تأتي صدفة، بل بالعمل الشاق والتفاني. والريادة عملة نادرة تنال عبر الكد والمثابرة والطموح لحصد المراتب وتطوير المواهب واكتشاف الذات.

كل هذه المعاني لا تصبح حلما بين ليلة وضحاها، ولكن بعد المرور بمراحل ومحطات عدة يكون فيها الفشل أحيانا واردا، فيتخذ نقطة للاستجمام وأخذ العبرة والخبرة، ومن ثم الانطلاق مرة أخرى نحو النجاح، مستفيدا الإنسان من الملكات الذهنية التي حباها له خالقه سبحانه ومن خلال تسخير ومواكبة البيئة المتفردة التي تحيط بعالمه. محمد العصفور، بحريني مثابر يجسد كل ما ذكر. نافس العصفور كبريات الشركات الأجنبية والفرنسية الراقية المتخصصة في إنتاج العطور، كان إنسانا بسيطا تربى وسط عائلة بسيطة، اشتهر اسمه مع منتج العطر الذي استمر لسنوات يطوّره حتى رأى النور. عطر “الشيخ” يتفاخر به البحرينيون كمنتج وطني منافس دوليا، حصل على جوائز عالمية في باريس ودبي، وتصدر مبيعات السعودية والإمارات.

عمل العصفور منذ 1993 على إنتاج العطر، وتم طرحه في الأسواق العام 2001، وخلال 9 سنوات من العمل والبحث والتطوير وصل المنتج إلى 50 دولة و800 نقطة بيع حول العالم.

يقع مقر الشركة الأم للمنتج (الشيخ ديزاينر- Shaik Designer) في قرية الحجر البحرينية، فهو مصمم بطريقة رائعة ومستلهم كثيرا من زهاوة ألوان الحضارة الشرقية تجسدها شخصية الأمير المبدع الذي يمتعنا بأحاسيسه الرومانسية وروائع منتجاته كأسطورة حية معبرة يتفاعل بها مع معجبية.   وفيما يلي نص الحوار:

 

حدثنا عن نشأتك؟

ولدت وعشت في المنامة وتحديدا في شارع الشيخ عبدالله بالقرب من موقع المخابز. وتدب في محيط منزلنا الحياة ويستمتع الناس بالمشاهد الخلابة، فيأتي للمكان مختلف الأطياف من الصغير وإلى الكبير والمسن، والكل يتسوق ويشتري حاجايته. كانت السوق قريبة منا، فالوالد يأخذنا صباح كل يوم لزيارة محلات معينة تعود لتجار البحرين المعروفين، حيث تعلمنا الكثير من خلال تلك الزيارات، واكتسبنا خبرات من معرفتنا للناس وأعمالهم، وكيفية التعامل مع الجميع.

 

وكيف كانت المرحلة الدراسية؟

بدأت المرحلة الابتدائية بمدرسة الرشيد الابتدائية للبنين، ثم مدرسة الإمام علي الإعدادية، فالحورة الثانوية. كانت أيام الدراسة أحلى الفترات في حياتنا، إذ كنا نخرج من شارع الشيخ عبدالله، مرورا بالأحياء (الفرجان) والالتقاء بزملاء الدراسة الذين كانت منازلهم على امتداد الشارع حتى الوصول لمنطقة الحورة.

المرحلة الجامعية كانت مرحلة مختلفة وجديدة بالنسبة للعائلة، إذ إننا تربينا في أسرة محافظة لا تسمح بالمكوث خارج المنزل بعد العاشرة مساءً، وإلزامية تواجد الجميع في وقت الغداء، وبالتالي أعطتنا الجامعية نوعا من الحرية والاعتماد على النفس، كان طموح الوالد أن أدرس الطب، لكنني فضلتُ الهندسة، فذهبت إلى الإسكندرية لدراستها، وفي ذلك الوقت كنت قد بدأت مشروعي الخاص بالبحرين المتخصص في الصباغة ودهان المباني، فسلمتُ العهدة لشريكي محمد نجار، ولكنني لم أستكمل الدراسة، إذ بقيت فيها مدة عامين فقط حينما بدأت الشركة (الصقر للصباغة) تعاني ديونا بعد أن كانت أكبر شركات صباغة المباني في ذلك الوقت.

 

ومتى كان أول عمل مارسته؟

مع بداية الإجازة الصيفية المدرسية كان الوالد يأخذنا أنا وأخي علي للعمل مع أحد القصابين، وكان عمري حينها 10 سنوات، كنا نعمل كمساعدين منذ الصباح وحتى وقت الظهيرة من دون راتب.

ثم تعلمت أساسيات العمل وباشرت الذهاب إلى سوق حراج الفواكه، وأشتري بعضا منها، ومن ثم أعيد بيعها لصالحي في شارع الشيخ عبدالله، وهكذا تعلمت التجارة وأساسياتها منذ الصغر.

ثم افتتحت شركة الصقر للصباغة شارع القصر، وأصبحت من الشركات المعروفة، ومن ثم انتقلنا إلى شارع البديع، وحينها أخذت أرضا من إدارة الأوقاف وبدأت البناء فيها، وفي الوقت نفسه كنت أعمل على أفكار جديدة مثل (مشروع المنامة المعلقة)، وأفكار مستقبلية تعتمد على القاطرات والأطروحات المعمارية.

 

هل لك أن تحدثنا قليلا عن أفكار مشروع المنامة المعلقة؟

من ضمن الأفكار الخيالية، كنت قد أخذت صورا متعددة لمواقع مركزية على امتداد شارع الملك فيصل وأدخلتها الكمبيوتر، وأعدت رسومات وواجهات من تصوري لوسط المنامة المستقبلي بصورة خيالية ولافتة للنظر، ربطت الطوابق العلوية للمباني المعروفة في تلك المنطقة بجسور تجارية وبمناظر وأطروحات معمارية هادفة تتصل مع بعضها من خلال 7 محطات مختلفة، وربطت هذه المحطات مع بعض بقاطرة المونوريل لتوحد وسط المنامة كمشروع تجاري معلق في السماء.

ويتوسط الرسم التخيلي (فضاءان)، فرسمت مباني خيالية على جسر يوصل السوق القديمة بساحل المنامة (موقع مرفأ البحرين المالي حالياً)، بحيث إنه لو كان هناك مخلوقات فضائية تريد زيارة الكرة الأرضية، فإنها تقدر تزور البحرين، فكانت هذه أفكار خيالية أصممها بالكمبيوتر، وتنشر لي في المجلات والجرائد المحلية، وأرسلها كبطاقات معايدة في مناسبات العيد الوطني، والتي نالت إعجاب الكثيرين.

 

 

كيف راودتك فكرة ماركة عطر الشيخ؟

عملت في مجالات عدة لصباغة المباني والهياكل وحتى تخطيط أرضيات المطارات في فلوريدا مع شركة في هذا المجال، لكنها لم تنفعني في البحرين، حيث يتم جلب شركات متخصصة، ولكنني استغللتُ الخبرة التي اكتسبتها في مجال البناء، فعادت بأرباح جيدة، وبذلك سددت ديون شركة الصقر المملوكة لديَّ سابقا منذ العام 1976 وحتى العام 2005، كما أملك محل صرافة افتتحته العام 1992، وكنت أُصرِف الشؤون الإدارية فيه، بينما بقية الأعمال تقع على عاتق الموظفين.

في العام 1993 بدأت أطور في علامة “الشيخ” كهواية، إذ لم أكن أعرف كيف ستنجح الفكرة، ثم أحسست بضرورة التركيز في العلامة فقط، وأغلقت شركة الصقر بعد أن غرقت في الديون، وكثرت الشركات المنافسة لها في السوق، وخففت من الاشتغال بمحل الصرافة. كنت دائما أبحث في عالم الخيال والإيجابية في التاريخ، ولاحظت في جميع المرات التي أسافر فيها يذكر الناس وخصوصا الفتيات الفارس العربي الذي يمتطي الحصان الأبيض، فأصبحت الفكرة تراودني، وقادتني إلى ابتكار ماركة “الشيخ المبدع” لإنتاج منتجات العطر والجلديات والمجوهرات، التي تعبر عن هوية إنسان الصحراء وثقافته وحضارته، من خلال الإبداع في التصميم وخلق ماركة تجسد الخيال الهادف لأمير الصحراء المبدع.

ثم باشرت تجسيد قصة كنوز الصحراء، بمعنى أن أترجم الخيال والإبداع في منتج مثل العطر، ولكن بعد 4 سنوات استغنيت عن قصة كنوز الصحراء؛ لأنها لم تنضج، وشعرت أنها تفتقر إلى الإلهام الرومانسي. ثم فكرت بفكرة “الشيخ” كأمير للصحراء، فوجدت فيها إلهاما رومانسيا. وهناك قصص كثيرة منتشرة في العالم عن رومانسية الفارس العربي الذي ينطلق بحصانه ويأخذ الأميرة من قلب الصحراء، وأخذت أعمل على الماركة قبل طرحها في السوق لمدة 9 سنوات حتى تم طرحها في العام 2001.

وأصبح عطر الشيخ الآن منتشر في أكثر من 50 دولة حول العالم، ويتم بيعه عبر 800 نقطة بيع في مختلف المحلات الراقية، من ضمن الدول أفغانستان، وفيتنام التي تعتبر من أفضل مبيعاتنا في الخارج، إذ إن قصة العطر بالنسبة لهم غريبة ومشوّقة من الناحية الثقافية والتراثية.

 

كيف يتم خلط المواد الموجودة في العطر؟

بما أن مجتمعنا لم يكن صناعيا اضطررنا لزيارة المحلات والمنشآت الصناعية، وكذلك كون زوجتي أجنبية أصبح ذهابي لدول أوروبا واختلاطي وزيارتي لمحلات العطور ومصانعها شيء طبيعي، لذلك بنينا علاقات من خلال تلك المصانع مع كيميائيين؛ لمعرفة ما هو مناسب لجسم الإنسان، وللحقيقة خلطة عطر “الشيخ” من ذوق زوجتي، حيث إنها تمتلك حاسة شم مذهلة تميز فيها الروائح الطيبة والمؤثرة، واتفقنا مع تلك المصانع تزويدنا بالعطور.

في العام 2001 أطلقنا أول منتج من عطر “الشيخ”، ولكن عندما ذهبت لأصحاب المحلات جميعهم رفضوا عرض المنتج بسبب السعر، وكانوا يقولون إن الماركات العالمية المشهورة بـ 20 دينارا، وعطرك الذي لا يعرفه أحد تريد بيعه بـ 55 دينارا! لكن هناك محل واحد قَبِل عرض العطر لديه، وهو محل “وجوه” بمجمع السيف بحكم أن صاحب المحل أعجب به، رغم تحفظه على السعر، فعرضه خدمة لي بعد أن أشفق عليَّ، إذ أحس بتعبي وجهدي، وأخذت أزور المحل من دون أن أعرف نفسي أنني صاحب الماركة، إذ لاحظت إعجاب الزبائن بالعطر، ويسألون البائع عنه، ولكنهم يعزفون عن شرائه بسبب غلاء السعر.

بدأت مبيعات العطر تزداد رويدا رويدا بعد أن قام شاب محدود الدخل بشرائه كهدية زواج ما دفع صاحب محل “وجوه” بعرضه في فروعه بدول الخليج الأخرى، وفي العام 2002، أي في السنة الثانية من تدشينه قامت مجموعة الحواج بعرضه، فزادت مبيعاته بشكل لافت. حاولنا طرحه في دبي، إذ تكررت معاناة الإقناع هناك أيضا، إلى أن نجحنا أخيرا مع “رديو درايف” و”باريس جاليري”، وبدأ ينتشر بفنادق دبي، وبدأ الطلب يزداد ويزيد على العرض لمحدودية الإنتاج اليدوي ذي الجودة العالية، وزاد احترام الزبون للماركة وسمعتها، ومنذ ذلك الوقت انتشر “الشيخ” في الخليج، وحقق نجاحا لم أكن أتوقعه أو أحلم به.

يتم إنتاج العطور في البحرين بمقدار 5000 زجاجة في الشهر، ونصحني الكثيرون بزيادة الإنتاج لتلبية الطلب، لكنني لا أرغب في ذلك؛ لأن جَني المال ليس هدفي الأول بقدر ما أطمح أن أصنع شيئا له قيمة في الحياة، ولهذا أعمل جاهداً ليكون شكل زجاجة العطر يعبر عن إبداع، بحيث أن الشخص الذي يشتريها، لا يرميها في سلة المهملات، وإنما يحتفظ بها لجمالها وما تحتويه من بعد ثقافي وحضاري.

 

كم نوعا تمتلك ماركة عطر “الشيخ” حاليا؟

عطر “الشيخ” (3 رجالي، و3 نسائي)، حيث أضفنا صنفا جديدا قبل 3 سنوات، إذ إن المنتج يعتبر مثل أبناء صاحب المشروع ويعامله معاملة جيدة وخاصة، فإذا زاد عدد الأبناء تشتت الخصوصية، ونمتلك نوعين من العبوات 40 مل وأخرى 100 مل.

 

وما جديد الماركة؟

نركز حاليا على الساعات، حيث بدأنا العمل عليها منذ 12 عاما، وطرحناها بالسوق لأول مرة العام الماضي، وأشعر أنها مازالت غير مؤهلة للانتشار العالمي، فنحن بصدد تطويرها وإشراكها مع بقية الإكسسوارات، لكي ننافس الماركات العالمية، بحيث يكون لنا طابعنا الخاص لإقناع الزبون حتى يحس بالفخر عند امتلاكه المنتج ويترقب كل ما هو جديد لماركة “الشيخ”. لدينا الآن نوعان من الساعات (أوتوماتيك) و(كوارتز) التي تعمل بالبطاريات، هناك 3 ألوان لكل نوع تناسب الجنسين، كما توفر إكسسوارات مختلفة تساعد الزبون على تبديل جلود الساعات. يتم تجميع الساعات في البحرين بعد أن تزودنا المصانع الأجنبية بالقطع.

 

كم يقدر رأس مالك في البداية؟

بدأت بنحو 500 دينار مع شريك، وزاد لاحقا إلى 5 آلاف بعد أن كفلني والدي لدى أحد البنوك للحصول على قرض، وكان لدي دخل من شركة الصقر وغيرها من الأعمال التي أعطتني استقرارية واستطعت الإنفاق على الماركة بهذه الطريقة، وخصوصا أنني لم أولد في عائلة ثرية.

 

مم يتكون شذى هذه العطور الرائعة؟

إنها خلطة سحرية مكونة من 130 عنصرا تم انتقاؤها بعناية فائقة من بين أفضل الزهور والأعشاب البرية والتوابل الشرقية النادرة.

 

ما جديد “الشيخ ديزاين”؟

نحاول تطوير طرق ومنصات البيع؛ حتى نتمكن من المنافسة عالميا خصوصا مع وجود منتج للساعات، فلدينا حاليا موقعان بالبحرين في “مودا مول” وفندق “الفورسيزون”. ونعمل حاليا على تطوير الورشات؛ لنتمكن مستقبلا من صنع ساعات كبيرة تمتد إلى 23 مترا تقريبا ليتم وضعها على الدوارات مثل مطار البحرين ودوارات أخرى في بقية الدول ليكون لنا وجود مختلف عن غيرنا من الشركات ليرمز للجودة والصناعة والفكر. وكذلك نطمح لإنتاج أزياء وجلديات، إذ باشرنا دراستها منذ 7 سنوات، وسيتم طرحها في الوقت المناسب. كانت ابنتي الكبرى تعمل معي وسارعت بطرح ماركتها الخاصة (صوفيا العصفور)، إلا أنني أركز على أن تكون الجلديات من الصحراء، وتتطلب شغلا مختلفا، فهي ستكون خشنة وقوية وتحتاج إكسسوارات تتناسب معها.

كيف ترى تقبُّل المجتمعات لمنتجاتكم؟

في الواقع أرى أن هناك أعجابا لكثير من المجتمعات بالمنتج، ففي إحدى المرات مثلا ذهبنا لأحد المطاعم الراقية في روسيا مع وكيلنا هناك، فسأل صاحب المطعم عن العطر الذي يستخدمه، فرفع إبهامه بعلامة (OK)، وقال “الشيخ” أحسست عندها بالارتياح خصوصا عند رؤية مجتمع غربي يفتخر باستخدامه لمنتجنا.

 

كيف تقضي يومك؟

منذ الصباح وحتى المساء أعمل في الورشة وأشاهد المطوّرين وكيف يسير العمل معهم، أمارس الرياضة يوما واحدا في الأسبوع. أما الإجازة الأسبوعية، فأقضيها في السباحة وركوب الدراجات الهوائية.

 

هل أنت من محبي السفر؟

أجل أسافر سنويا، حيث أذهب إلى الريف الفرنسي أو إيطاليا التي أحبها كثيرا لما تتمتع به جودة في صناعة الساعات وغيرها، وعرفنا الزبائن الذين نتعامل معهم، ولذلك أسافر لها سنويا، وأحب الانتقال إلى بعض المناطق الباردة لممارسة رياضة التزلج على الثلوج.

 

ما السيارة الأولى التي امتلكتها ومتى؟

كانت قبل الدراسة الجامعية ماركة “نيسان” بقسط 30 دينارا.

 

ما عندك من الذرية؟

الحمد لله، لدي بنتان هما صوفيا وأماني.