+A
A-

رفضت الموروث “المتخلف” فهزمت إعاقتي السمعية

تحتفل الدول العربية بأسبوع الأصم العربي في الأسبوع الأخير من شهر أبريل في كل عام، وكجزء من مسئوليتها الاجتماعية، التقت “البلاد” مريم التي تحدثت عن رحلتها وآمالها في عالم الإعاقة السمعية والصعوبات التي واجهتها منذ نعومة أظفارها ولغاية ما اشتد عودها وأصبحت أيقونة للمرأة البحرينية في غوض غمار التحدي بكل ثقة وجرأة، وفيما يلي نص الحوار:

كيف كانت حياة مريم في بدايات عالم الصمت؟

للأمانة لم تعرف مريم قط عالم الصمت ولم تعش حياة صامتة، كان الكل يكلمني ويلاعبني والموسيقى تملأ حياتي، صحيح أنني كنت لا أسمع ولكن من حولي وخاصة أبي كان ينام على الموسيقى التي تزين سريري، وهذه إيجابية كبيرة للإعاقة السمعية، إنها إعاقة غير مرئية، الكل يتعامل مع الطفل المعاق سمعيًا بشكل طبيعي حتى تكتشف إعاقته.

مرت مريم بعدة اختبارات تشخيصية لحالتها والتي ولدت صرخة (مريم يجب أن تتكلم) كيف تمكنت مريم من الكلام؟

للأسف الشديد لم يكن في البحرين أثناء ولادتي فحصًا مبكرًا للسمع.. وكان الآباء يعتقدون بأن أبناءهم يولدون بكامل حواسهم وكانت الإعاقة السمعية من المحظورات، بمعنى من يولد بإعاقة سمعية عليه أن يبقى طوال حياته صامتًا.

الاختبارات التشخيصية التي مررت بها في حياتي كانت بدائية للغاية مثل المفاتيح والطبلة والمزمار  وفي المرحلة المتطورة الشوكة الرنانة، لذلك تأخر كثيرًا اكتشاف إعاقتي السمعية والاكتشاف المتأخر يصعب تجاوز الإعاقة . الحمد لله الآن وبفضل الوعي الذي بدأه مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لتنمية السمع والنطق التابع للجمعية البحرينية لتنمية الطفولة أصبح التشخيص المبكر إلزاميًا.

وها قد تكلمت مريم. وأضحت أكثر اندماجًا في المجتمع ما الذي غير مريم؟

الإنسان كائن اجتماعي وهو يدمج في المجتمع عن طريق التخاطب والتفاعل مع الآخر. تصوري لو لم أكن قادرة على الكلام. سوف أعيش في عزلة أنا وأسرتي وسوف أصبح عبئًا على أسرتي والمجتمع. أما الآن بعد أن كسرت جدار الصمت فأنا وأسرتي مصدر فخر للمجتمع ومصدر قوة له. الذي غير مريم إرادة والديها وحبهما لها وقبولها كما هي ورفضهما للموروث المتخلف.أما كيف تكلمت مريم فهي إجابة يطول الكلام فيها، حيث أن الموروث أثناء اكتشاف إعاقتي أي قبل نحو ثلاثين عامًا، كان أن يبقى فاقد السمع معزولاً في عالم الصمت  وإذا أراد التواصل فلا بديل من لغة الإشارة.

هذا الموروث رفضه والدي الذي كان يحلم بسماع كلمة بابا من فلذة كبده مريم، ولذلك دفعه هذا الحب الواعي إلى رفض الموروث وسلحه بإرادة فولاذية ترى أملاً في آخر النفق. الحب والإرادة ولدا لديه مثابرة وعمل دؤوب وبحث مستمر في كل أرجاء المعمورة حتى يهتدي للطريق الذي يوصله إلى أن تنطق مريم. كان يرفض كل المدارس والفلسفات التي تنادي بعجز الفاقد للسمع على الكلام. نطقت أولى كلماتي في مصر وبعد الكلمة الأولى تدفقت كما يقول أبي الكلمات وكنت أبادل أهلي بصبرهم وحبهم بعطاء كبير. كل هذه التجربة تستطيعين أن تقرأيها في الكتاب الذي ألفه أبي “حبيبتي ابنتي سميتها مريم”.

تعبر مريم عن قصة نجاح والهام لكل من يواجه التحدي بروح العزيمة والاصرار، كيف يمكن لـ مريم قاهرة الصمت أن توجز للقارئ تلك المضامين؟

كما ذكرت آنفًا بأن التحدي هو وليد الحب بدون شروط، وأن التحدي لا بد من أن تتبعه مثابرة وعمل جاد، وإرادة أيضًا تقنع أقرب الناس إليك بأن رسالتك قابلة للتحقق وهذا سهل جدًا إذا كنت مؤمن إيمانًا قاطعًا برسالتك  والدي لم يراهن إلا على نطقي مهما كلفه الثمن . نعم هناك أثمان مادية ومعنوية كبيرة تدفع، ولكن أمام تحقيق الهدف كل هذه الأثمان تصبح لا قيمة لها.

العزيمة والاصرار والتحدي والأمل والمثابرة هي نتائج الحب العميق الواعي الذي يضحي بكل غالي ونفيس من أجل أن يخرج من يحب من عالم إلى عالم آخر

ساهمت مريم في صياغة تجربة رائدة لمملكة البحرين في مجال تنمية السمع والنطق على مستوى العالم .. ما الذي يميز هذه التجربة؟

و أبدأ من حيث انتهى سؤالك..الذي يميز هذه التجربة بشكل واضح جلي هو أنها لا ترتضي لثقافة المشافهة والكلام بديل . معظم دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي يوجد بها مدرستان للتعامل مع الإعاقة السمعية، ولكن مدرسة الدولة هي لغة الإشارة .. وأعتقد أن تبني لغة الإشارة له جانب كبير اقتصادي حيث أن ثقافة المشافهة والدمج عبر الكلام مكلف جدًا . إلا أنني أعتقد إخراج طفل من عالم الصمت إلى عالم الكلام لا يقدر بثمن. الطفل هنا يخرج أسرته من عالم الحزن والاكتئاب إلى عالم الفرح والسعادة وكذلك الطفل هنا ينقل مجتمعه من التخلف إلى التحضر..

كيف تصف مريم شعور النجاحات المتعددة لمن يعانون من صعوبات السمع والنطق، بعد أن ساهمت في تمهيد الطريق إليهم للإندماج في المجتمع؟

بالطبع الصعوبات اليوم أقل بكثير مما كانت عليه قبل ثلاثين عامًا. اليوم ما كان حلمًا مستحيلا أصبح واقعًا ملموسًا، قبل ثلاثين عامًا لم يكن لدينا نماذج لنقدمها للمجتمع، اليوم النماذج كثيرة وذلك بفضل التعاون الكبير الذي تم بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك المؤسسات التجارية والمصرفية التي ساهمت ماديًا لدعم المشروع التنموي في مجال الإعاقة السمعية.

الجانب الآخر والمهم أن التطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي الذي أنجز في العقود الثلاثة الأخيرة كبير جدًا جدًا وكذلك أجهزة الفحص الدقيقة جدًا التي تشخص بشكل دقيق نسبة فقد السمع لدى الطفل وأساليب التدريبات اللفظية والسمعية المتطورة.

حبيبتي ابنتي سميتها مريم، ما قصة هذا الكتاب الملهم الذي يعبر عن تجربة إنسانية نادرة ذات بعد تنموي لبناء مستقبل أفضل للأجيال؟

قصة هذا الكتاب الذي تسألين عنه كاتب القصة والدي حبيبي “عشقي الممنوع” كلما أتصفح الكتاب أجد بين سطوره سعادة لا يمكن وصفها..وعندما أسال أبي هل بالفعل كنت سعيدًا إلى الدرجة التي أراها بين سطور الكتاب بالرغم من كمية الألم المحجونة به كلمات الكتاب فيجيبني مبتسمًا أنت محقة يا ابنتي فإنني بالفعل من أسعد البشر والسبب بسيط هو عودتك للحياة.. فأسأله كيف؟ فيجيبني أن أي أب عندما يخبروه بأن ابنه أو ابنته لا تسمع فكأنما أخبروه بأن طفلك قد مات!! لأنه أحلام الأبوين تنهار أمام هذه الصدمة.

بعد أن نطقت واندمجت في المجتمع بشكل طبيعي فإنك عدت للحياة ، هل توجد كلمات تصف عودة ابنة للحياة بعد أن كانت عودتها مستحيلة؟ بهذه الروح الإيجابية السعيدة كتبت الكتاب لأقول للأسرة إن مع العسر يسرا فإن مع العسر يسرا، ولأقول لهم بأن السعادة الحقيقية والفرح الكبير لا يأتي إلا مع الألم والمعاناة، أراد والدي أن يقول للأسرة بأن العطاء أخذ، وأن العمل الجاد الواعي والمثابرة المغلفة بالحب تحول الحلم إلى واقع والألم إلى فرح.