نجمتان من نجوم السينما والغناء نُسجت بعد رحيل كل منهما المفاجيء أساطير لا تهدأ إلا ليُعاد نسجها: الأولى أسمهان التي رحلت عن عالمنا 1944، والثانية سُعاد حُسني التي رحلت مطلع الألفية، ولعل كلتي الفنانتين إنما تعززت شهرة كل منهما بذلك الرحيل الصادم والذي أُقحمت حوله-كما ذهبنا- الأساطير أو "نظرية المؤامرة".على أن ما يهمنا في هذا المقام الرحيل المأساوي للفنانة أسمهان(شقيقة الفنان الكبير فريد الأطرش) والتي تُوفيت عام 1944 إثر سقوط سيارتها في ترعة،دون تكملة فيلمها الشهير "غرام وانتقام"، والذي كان من بطولتها وأنور وجدي، ومن إخراج الفنان المسرحي والسينمائي الكبير يوسف وهبي. وإذ سُطّرت التخرصات والتقولات في تفسير ذلك الحادث الفاجع، يُقدّم لنا وهبي في حديث تلفزيوني بصوته الجهوري الفصيح شهادة ضافية بتلقائية لا يرقى إليها الشك، سيما وأنه الشاهد الوحيد لمقدمات رحيلها. ونختصر هنا شهادته التي أدلى بها بألم مكتوم لا تخطئه العين، حيث أوضح بأنها زارته في بيته لتخبره عن عزمها على قضاء إجازة نهاية الأسبوع مع صديقتين في" رأس البر" فيما حاول أن يثنيها عن ذلك بكل السُبل الممكنة، وإقناعها باصطحابهما -هو وزوجته- إلى الإسكندرية. وفي يوم الحادث المشؤوم وبينما كان يبذل قصارى جهده مجدداً في شقتها لإقناعها بالسفر معهما،حضرت صديقتاها لاصطحابها معهما إلى "رأس البر"، لكن لأمر ما لم تفعلا ذلك، وتقرر أن تذهبا لوحدهما فيما تذهب هي في سيارتها لوحدها، فلقيت مصرعها في حادث الترعة، والذي يفسره وهبي قضاءً وقدراً.ويُذكّرنا رحيلها دون إتمام فيلمها" غرام وانتقام" بالرحيل شبه المتوقع المفاجيء- لأسباب مرضية- للنجم الكوميدي الكبير نجيب الريحاني عام 1949 بطل فيلم"غزل البنات" قبل أن يتمه أيضاً، وكلا الفيلمين يزخران-كُلاً على حدة- بأغاني جميلة لأسمهان وليلى مراد التي شاركها الريحاني في بطولة فيلمهما،كما شاركها في دويتو من أجمل أغانيها الخالدة " عيني بترف".
ولا تضاهي الدعايات التي راجت بقوة إعلاميا لتفسير حادث رحيل أسمهان، سوى الإشاعات السياسية التي راجت لتفسير رحيل سعاد حسني والتي كان الشاعر والأديب الكبير عبد الرحمن الخميسي هو أول من اكتشفها سينمائيا.وقد لقيت حتفها بسقوطها من بلكونة شقتها في لندن بفرضية راجحة لانتحارها. ولطالما ارتبط تسطير تلك الإشاعات بأسماء نجوم شهيرة،وذلك حينما ترحل فجأةً، دون توقع مسبق لتوقيته،فيكسب الأفّاكون تلك الشائعات بهارات شهية المذاق تجعلها قابلة للتصديق. وأجدني هنا ميّالاً لتصديق شهادة المفكر جلال أمين في كتابه الموسوم" شخصيات مصرية فذة" حيث خصص للفنانة حُسني فصلا فسّر في نهايته رحيلها بأنه كان أقرب إلى "المأساة الإغريقية" التي لا يمكن إلقاء اللوم فيها على أحد، ملمحاً بدور ما للأكتئاب الذي لازمها طويلا بعد وفاة الفنان وشاعر العامية الكبير صلاح جاهين،والذي كان-حسب تعبير أمين- بالنسبة لها الأب والصديق والحبيب،وكذلك القلق الذي استبد بها على مستقبل جمالها.(ونُضيف إليه من جانبنا صوتها المميز الخارق في أنثويته).
وتبقى أخيراً نقطة أحسبها في غاية الأهمية فيما يتعلق بالرحيل المفاجيء لنجوم سينمائية دون إتمام أفلامها، فلطالما جذبتني قصص إخراج الأفلام التي يرحل بطل من أبطالها فجأةً لأي سبب كان من الأسباب دون تكملة فيلمه، فيقع مُخرج الفيلم في ورطة، ولا يجد أمامه سوى سلوك واحدة من ثلاث طرق : الأول إعادة إخراج الفيلم، بإسناد دور البطولة من بداية الفيلم لممثل أو ممثلة أُخرى، وهذا ما يُكبّد المنتج والمخرج نفقات طائلة مُضاعفة، والثاني "ترميم الإخراج"،إن صح تعبيرنا،باستحداث مقاطع أو مشاهد ذات معالجة فنية سلِسة، بحيث تكون النهاية البديلة عن النهاية الأصلية مُقنعة للمشاهد لا تبتعد عن سياق حُبكة الفيلم، وهذه المعالجة لعلها أقل كُلفة من إعادة الإخراج برمته.والثالث حين لا يجد المخرج سبيلاً له سوى إلغاء ما تم إنتاجه جزئيا من الفيلم وإعادة انتاجه وإخراجه مجدداً ،سيما إذا ما كان في بداياته. ومع أنه تتوافر في حوزتي مجموعة لا بأس بها من الكتب والمجلات السينمائية، إلا أني لم أعثر في عناوينها أو مضامينها ما يشير إلى من كرّس نفسه لهذا الجانب تحديداً من فن الإخراج الاستثنائي . وفي تقديري أن إبداع المخرجين الكبار في "ترميم الإخراج" لا يقل إبداعاً عن إخراجهم للأفلام العظيمة الناجحة، ولربما جاءت أكثر إبداعاً .