العدد 5654
الأحد 07 أبريل 2024
banner
طه حسين و اليسار المصري
الأحد 07 أبريل 2024


 لعل اليسار المصري واحداً من أكثر التيارات السياسية والفكرية بروزاً إبان صعود نجم المفكر اللغوي والسياسي طه حسين على الساحتين الأدبية والسياسية في الفترة ما بين عشرينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلى أن استطاع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر أن يؤمم معظم قوى اليسار ضمن تأميماته الاقتصادية الشهيرة في الستينيات بعد أن أجبر الحزب الشيوعي المصري على حل نفسه، ومن ثم أن يلحق عدداً من أبرز قادته في بوتقة حزبه الحاكم " الاتحاد الاشتراكي".  وكان اليسار المصري- منذ نشأته في أواسط العشرينيات- مطارداً أمنياً، كما هو حال اليسار في الأقطار العربية والإسلامية قاطبة، وكثيراً  ما تُربط مثل تلك المطاردات باتهام قواه وقياداته بنشر الألحاد، ولطالما وظّف خصوم اليسار هذا الاتهام، ليس في معارك الجدل الفكري أو المنافسة السياسية فحسب، بل وفي معارك النقد الأدبي والفني أيضاً. على أن ثمة ثلة من كبار المفكرين والنقّاد من خارج تيار اليسار اعتبرت أن توظيف سلاح من هذا القبيل، على مختلف الساحات الفكرية والسياسية والأدبية والفنية، إنما يُخرج النقد أو الأنتقاد من أُصوله العلمية الموضوعية ويسقط صاحبه في محذور "الشخصنة" والتشهير الشخصي، ذلك بأن النقد الموضوعي مهما قسى صاحبه فيه يشفع له التزامه بقدر معقول من الموضوعية. وكان طه حسين الذي لم ينتمِ لليسار قط هو نفسه لم يسلم من تكفيره تكفيراً لعله فاق تكفير اليسار، إذ وصل إلى حد استباحة دمه، ومع ذلك فقد كان منفتحاً في نقده على كل الأعمال الأدبية أياً كانت انتماءات كتّابها بما فيها اليسارية منها، إذ كان يركز في نقده التقييمي على النص الأدبي المنقود دون أن  يُقحم فيه ما يحمله صاحبه من فكر سياسي أو ديني، ذلك بأنه يضع  أعمالهم الأدبية فوق ميزانه نقدي بمعيار واحد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
ولعل واحدة من أشهر المعارك النقدية التي خاضها العميد مع اليسار تلك التي دارت بينه وبين إثنين منهم، محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، والتي جرت في أواسط الخمسينيات، وقد سبق أن تناولنا هذه المعركة التي كان ميدانها صفحات بعض الصحف المصرية، حيث انتقدا فيها-تحت تأثير فورة حماسهما الشبابي اليساري - عدداً من كبار الأدباء مثل: طه حسين وعباس العقّاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم. ففي حين اشتهر العقّاد في رده عليهما بعبارته الشهيرة :" إنني لا أناقشهما وإنما أضبطهما .. إنهما شيوعيان" جاء نقد تُربه طه حسين أكثر ليناً وتلطفاً بهما، فتحت عنوان " يوناني فلا يقرأ" كتب مقالاً خاطب فيه إياهما بلباقة واحترام ناعتاً إياهما " الأديبين الكريمين"، وقال أنه أساساً لم يفهم ما كتباه في المرة الأولى، ثم أعاد قراءة المقال مرة ثانية وثالثة فلم يفهمه، ثم سأل نفسه: لماذا لا يكتب الأديبان الكريمان ما يُفهم؟ وفي تفسيره للتعبير الذي جعله عنواناً لمقاله يوضح العميد أنه استعاره من مقولة كانت رائجة عند مثقفي القرون الوسطى الأُروبيين، فما أن يقع تحت أيديهم مخطوط مكتوب بالأحرف اليونانية حتى نبّه بعضهم على بعض بأنه "يوناني فلا يُقرأ"، إذ كانوا يجهلون اللغة اليونانية، ثم أضحى هذا التعبير مضرب المثل عند كل ما يصعُب فهمه ويستعصي تحقيقه. ولا يخلوا كلام العميد من الصحة،  ذلك بأن مقالات الناقدين العالم وأنيس التي جمعاها لاحقاً في كتاب بعنوان " في الثقافة المصرية" والتي انتهجا فيها خط المدرسة الواقعية للأدب الإشتراكي الستالينية بدا كأنهما  يخاطبان النخبة المثقفة اليسارية أكثر من مخاطبتهما لعامة المثقفين والأدباء، ناهيك عن عامة الناس( لمراجعة مفصّل رده الشائق أنظر: طه حسين، خصام ونقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2023، ص 87- 103).  ومما له دلالته في علاقة طه حسين باليسار ما سبق أن لفتنا الانتباه إليه في حديثنا عن الحوار الجماعي التلفزيوني الذي استضافت فيه المذيعة التلفزيونية ليلى رستم عشرة من كبار الأدباء والمثقفين في برنامج "نجمك المفضل"،فعلى الرغم من الإنهاك الذي بلغ مأخذه بالعميد في ذلك البرنامج، إلا أنه طلب سماع مداخلة لمحمود العالم، وأثنى على كتابه "معارك فكرية" الذي لم يخفِ فيه مؤلفه خطه الماركسي.ولنتذكر أن العالم نفسه ورغم الرد التكفيري الذي وجهه العقّاد إليه ورفيقه أنيس في الخمسينيات، فإن الأول لم يحمل ضغينة للعقاد، إذ أعرب عن استيائه بُعيد ذلك الحوار التلفزيوني الشهير من رد طه حسين القاسي على عبقريات العقاد. كما نُذكّر أيضاً بعلاقة المودة والاحترام المتبادلة التي ظلت العميد بالأديب اليساري اللبناني المعروف رئيف خوري بعد أن ناظره في ندوة شهيرة جرت في منتصف الخمسينيات تحت عنوان " لمن يكتب الأديب؟ " والتي سبق أن تناولناها،وقد نوهنا حينها بأن الناقد اليساري اللبناني المعروف محمد دكروب أبدى،فيما يشبه المراجعة والنقد الذاتي، إعجابه وثنائه على أطروحة  طه حسين في تلك المناظرة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية