العدد 5649
الثلاثاء 02 أبريل 2024
banner
العميد والعدالة الاجتماعية
الثلاثاء 02 أبريل 2024

لم يكن طه حسين حزبياً في يوم من الأيام بالمعنى الفعلي للعضو الحزبي، وإن كتب في بعض الصحافة الحزبية مضطراً، ولم يستهويه الانتماء لأي حزب من الأحزاب العلنية ذات النزعة اليسارية، لكنه عُرف منذ بواكير كتاباته الأولى بأنه من أشد المنافحين لإقامة العدالة الاجتماعية، وقد امتشق قلمه سلاحاً في الدفاع عن البؤساء والمحرومين وسائر من هم في قاع الهرم الاجتماعي، وانتقد أشد الأنتقاد استضعافهم وتهميشهم، ولا غرو في ذلك فقد ذاق هو نفسه مرارة الفقر والحرمان وعرف صنوفاً من ألوانه، وقد تحدث عنها في سيرته" الأيام"، كما في العديد من مؤلفاته ومقالاته الصحفية. ومن مقولاته المشهورة المأثورة  تعبيراً عن الرسالة الملقاة على عاتق الكتّاب والمثقفين الذين تؤرقهم قضايا المسحوقين والمهمشين من أبناء شعوبهم: " نحن لا نحيا لنكون سعداء"، " التعليم حق لكل إنسان كالماء والهواء"، " إن الفقر شرط الجد والاجتهاد والتحصيل، وإن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال". ولو سُئل قارئاً ذا إلمام جيد بفكر اليسار عن قائل تلك المقولات، دونما يعلم مسبقاً بأنها لطه حسين، لظن على الفور بأنها لواحد من مفكري اليسار.
ومن أشهر أعماله الأدبية التي عبّر فيها عن آلام المهمشين المضطهدين" المعذبون في الأرض" وكان كتبها في مجلة "الكاتب المصري" على حلقات في أواسط أربعينيات القرن الآفل، لكن العميد عندما أراد جمع الحلقات وضمها في كتاب حظرته السلطات وقتذاك، وصدر الكتاب في لبنان.وقد صدّر مقدمة أول حلقة ًبهذه المقولة" إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل ..." ثم أضاف لاحقاً في حلقة أخرى هذه المقولة أُخرى جديدة" إلى الذين يجدون مالا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون...". وفي مقدمة الطبعة الأخيرة من هذا الكتاب والصادرة عن الهيئة العامة للكتاب يؤكد الدكتور خير دومة" أن فكرة " المعذبون في الأرض" ربما راودت طه حسين مرات متعددة خلال حياته كلها، وأطلت برأسها في بعض مؤلفاته القصصية الأقدم مثل " الأيام" على الأقل في جزئها الأول 1929، كما ألحت عليه كثيراً في سنوات الأربعينات وعبرت عن نفسها في مؤلفاته "شجرة البؤس" 1944  و "الوعد الحق" 1949 و " مرآة الضمير الحديث" 1949.ويلفت دومة القراء إلى مغزى ودلالات أن مفردات مثل البؤس والشقاء والحرمان ظلت تتكرر في الجزء الأول من "الأيام" وتحديداً في رسالته لابنته التي ينهي بها هذا الجزء. أما مفردة "العذاب" والتي لم تكن شائعة أو مستخدمة في معجم كتاباته اللغوية حسب تقدير دومة، ولعل العميد استحدثها تحت تأثير فظائع ونتائج الحرب العالمية الثانية التي تأثرت بها مصر في ظل النظام السياسي حينذاك ( راجع في هذا الشأن حمدي عابدين، " المعذبون في الأرض" ... كتاب طه حسين الأشد إيلاماً، الشرق الأوسط، 17 يناير 2024 م ).
على أن طه حسين لم يقتصر في أعماله الأدبية المعبرة عن العدالة الاجتماعية أو الإصلاح الاجتماعي الذي ينشده ويكافح بقلمه من أجله على القضايا الاجتماعية التي يمور به مجتمعه قبل ثورة يوليو، بل تناول من نفس المنظور والمنطلق قضايا شهيرة من التاريخ، ومنها على سبيل المثال " ثورتان" التي حلل في هذا المقال تحليلاً رائعاً ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس في ظل الأمبراطورية الرومانية، وثورة الزنوج في البصرة إبان العصر العباسي. وكان العميد يرى بأهمية تسليط الأضواء على الوقائع التاريخية ذات الأبعاد الاجتماعية لاستلهام دروسها على حاضرنا الذي يعج بمشكلات راهنة مماثلة قائلا: " إن لنا في المطالبة بالعدل الاجتماعي تاريخاً حافلاً عظيم الغناء يستحق أن نرجع إليه.." . ولم تكن مضامين روايته "ما وراء النهر" التي نشرها في " الكاتب المصري" في الفترة نفسها من الأربعينيات ولم يستكملها لتوقف المجلة عن الصدور .. لم تكن سوى امتداد لأعماله الأدبية الموظفة لخدمة الإصلاح الأجتماعي والكفاح من أجل إقامة  العدالة الاجتماعية. 
على أن المتأمل في كتابات طه حسين التي جاءت في الخمسينيات بعد ثورة يوليو 1952 لايكاد يلمح فيها هذا الضرب من الكتابات المطالبة بالعدالة الاجتماعية أو الإصلاح الاجتماعي، ففي حين تناول فيه  أدباء كبار في الستينيات، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، أخطاء الثورة واخفاقاتها، لاذ العميد بالصمت وقلت كتاباته الأدبية؛ بالنظر لظروفه المرضية، واقتصرت اهتماماته في هذه الفترة على المجمع اللغوي الذي يترأسه، واللقاءات التي يعقدها في منزله مع مريديه، وكذلك الأحاديث الإعلامية التي يبدي استجابة لها، وظل على هذا الحال حتى وفاته 1973.  

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .