وهب الله لك أندى الحناجر
وخلق لها أليّن الأوتار
وخلق منها أرخم الأصوات
-أحمد شوقي-
يصغر الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، الذي يحلو للأشقاء المصريين في وسائلهم الإعلامية تلقيبه"موسيقار الأجيال"..يصغر عن عمر عميد الأدب العربي طه حسين بنحو عشرين عاماً، فالأول من مواليد 1910، فيما الثاني من مواليد 1889، ومع ذلك فإن العميد كان شاهداً على بدايات تألق عبد الوهاب موسيقيا وغنائياً وهو لم يزل في أواخر العقد الثاني من عمره، ولم يخفِ العميد الذي كان يتمتع بذائقة وثقافة موسيقيتين إعجابه بفن عبد الوهاب منذ بدايات ارتقائه أولى سلّم درجات المجد الموسيقي في أواخر العشرينيات. وخلال الأربعينيات وصل عبد الوهاب إلى ذروة تألقه، وحقق نجاحاً باهراً وشهرة مدوية؛ بفضل ثلاث من أشهر أغانيه الكلاسيكية ألا وهي "الجندول" و " الكرنك" و " كليوباترا". ويروي الكاتب الصحفي الشهير في صحيفة الأهرام كمال الملاّخ كيف كان العميد مفتوناً بهذه الأغنية الأخيرة إلى درجة أنه حاول مرة تقليدها : ".. منذ ٤ سنوات استمعت ذات مساء إلى دكتور طه حسين يغني مقلداً الموسيقار م. عبد الوهاب .. عندما ذهبت إلى التياترو لأول مرة استمع إليه يغني أمام منيرة المهدية: كليو بترا .. وكان يناديها.".
و يضيف الملاّخ : " ثم أخذ طه حسين يمد في نطقه لاسم كليوبترا فتحول النطق إلى غناء رنان... كليوبترااا".ومن المعروف أن كلمات هذه الأغنية هي في الأصل قصيدة لمحمود علي طه، ويبدو أن عبد الوهاب علِم مسروراً بهذه المحاولة الطريفة من قِبل العميد عندما أراد أن يتحقق منها بنفسه في حديث له مع الملاّخ. وكذلك كانت كلمات" الجندول" في الأصل قصيدة لعلي محمود طه نفسه والذي كان من أشهر شعراء الأربعينيات في القصائد العاطفية الرومانسية.ويروي عبد الوهاب قصته مع هذه الأغنية وكيف اكتشف كلماتها بينما كان يتصفح " الأهرام" حيث وقعت عيناه مصادفةً على كلماتها تحت عنوان " الجندول"، فهام على الفور بعذوبة وسحر كلماتها، ذلك بأنها تصف وصفاً إبداعياً جمال مدينة البندقية " فينسيا" بقنواتها المائية الشهيرة سياحياً"، ويعبّر عبد الوهاب عن مشاعره في هذه اللحظات وهو ما فتيء ممسكاً بالأهرام: "وفي الحال تخيلت نفسي ممتطياً جندولاً أغازل فتاة جميلة وأغني لها أغنية عاطفية وأنظر إلى مكان سكنها فتخرج هي إلى شرفتها فتبادلني الحُب... وأستطيع القول أني لحنت نصف القصيدة وأنا ممسك بالجريدة.. أحسست بأن هذه الكلمات فتحت آفاقاً تعبيرية جديدة".
ولفرط إعجابه بكلماتها لم يدقق عبد الوهاب في اسم ناظمها متوهماً بأنها للشاعر محمود حسن اسماعيل الذي اتصل به في الحال طالباً بأن يغنيها، وأوضح له هذا الأخير بأنها ليست له بل للشاعر علي محمود طه الذي وافق لاحقاً بكل سرور على أن يغنيها عبد الوهاب وهذا ما حدث.
لكن ما صلة طه حسين بهذه الأغنية الخالدة التي تُعد من درر أغاني عبد الوهاب في عز نجوميته الساطعة؟ وكيف كان تفاعله معها عندما علِم بالاستعدادات التي يجريها "موسيقار الأجيال" لتأديتها؟
في الواقع أن عبد الوهاب- كما يروي هو نفسه- عند ما علِم العميد بعزمه على تلحين" الجندول" طلب منه مقدماً ألا يأتي لحنها على غرار ما لحنه من قصائد سابقة مفهّماً إياه بأن "الجندول" قصيدة رومانسية حديثة في مبناها ومعناها وتحتاج لأسلوب جديد في التلحين.
ويخبرنا الباحث والناقد الفني الفلسطيني الكبير إلياس سحاب: "عندما كان عبد الوهاب يستعد مع نفر من الموسيقيين لا يصل عددهم إلى عشرة.
كان شاعر الأغنية علي محمود طه يتأبط ذراع الأديب طه حسين للإذاعة لحضور التسجيل.." وأثناء البروفات داخل أحد أستديوهات الإذاعة كان العميد ينصت بشدة بكل جوارحه و مسامعه لأداء عبد الوهاب،ولا يتوانى عن تصحيح طريقة نطقه لبعض كلماتها. وبعد أن انتهى موسيقار الأجيال من البروفات النهائية لألحان الأغنية اتصل بالعميد لمعرفة رأيه فيها، فأبدى إعجابه بهذا العمل الفني العريق وأثنى عليه قائلاً: " إنها نقلة هامة يجب متابعتها".
والحال ما كان لطه حسين أن يبدي كل تلك الملاحظات في طريقة تأدية الأغنية وأن يحذّر مقدماً عبد الوهاب من مغبة أن يكرر نفسه باجترار شيئ من ألحان أغانيه السابقة فيها، لولا أن العميد لم يكن متابعاً جيداً لأغاني عبد الوهاب فحسب، بل كان أيضاً يتمتع -كما نوهنا آنفاً- بقدر كبير من الثقافة والذائقة في الفن الموسيقي والغنائي.
فلا غرو إذا ما تمكن من إقناع موسيقار الأجيال بأن يغني في عز فجيعته بوفاة أبيه معززاً رأيه بمبررات فلسفية موسيقية إنسانية، حتى وجد عبد الوهاب نفسه مذعناً لقوة وجاهتها، سيما أن الحديث جرى بين اااثنيا في حضور أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أومأ له هو الآخر بتأييده لوجهة نظر العميد في ذلك الموقف العصيب الذي مر به الفنان الكبير.