العدد 5629
الأربعاء 13 مارس 2024
banner
حينما غنى عبد الوهاب في وفاة والده
الأربعاء 13 مارس 2024

في صيف 1928،أي بعد عامين فقط من الأزمة الحادة التي واجهها طه حسين حول كتابه " في الشعر الجاهلي"،عُقد في لبنان مؤتمر عن الآثار دُعيت إليه الجامعة المصرية، فوقع اختيارها عليه لتمثيلها فيه، وزاد من حماس حسين لحضوره ما أن علِم بأن أعضاء المؤتمر سيقومون بعد انفضاضه بتنظيم زيارة إلى عاصمة فلسطين "القُدس الشريف"، حيث كان حينئذ في أحر الشوق لزيارتها.وفيما كان العميد يُقيم في "أوتيل طانيوس" في عاليه، صادف وقتذاك أن كان الفنان محمد عبد الوهاب والشاعر أحمد شوقي يُصيفان في لبنان ويُقيمان في أوتيل "شاهين" القريب من الأوتيل الأول، وكان شوقي قد دعا نخبة من أهل الفن والثقافة في لبنان لحضور حفل يُغني فيه عبد الوهاب، وكان من ضمن المدعوين طه حسين، على أنه قبل يوم واحد فقط من ميعاد الحفل حدث مالم يكن في الحسبان، إذ قرأ عبد الوهاب في صحيفة" المقطم" التي تصل بيروت في اليوم التالي من صدورها نعياً بوفاة والده الشيخ محمد أبو عيسى المؤذن( مؤذن ومقريء قرآن في جامع سيدي الشعراني بباب الشعرية) فصُدم  الفنان أيما صدمة حالما وقع بصره على حروف النعي، ودخل في نوبة حزن شديدة،وتأثر شوقي تأثراً كبيراً لحزنه وبذل كل ما استطاع إلى ذلك سبيلا للتخفيف من محنته التي ألمت به على حين غرة دونما يتوقعها، واقترح عليه أن يزورا طه حسين بأوتيل طانيوس القريب منهما، بمعية الأستاذ فكري أباظة المحامي.وفي أثناء الزيارة أعرب العميد لعبد الوهاب  عن ترقبه الحار لحضور حفلة غنائه في مساء الغد، لكنه يُفاجأ بأن الحفل تقرر إلغائه بسبب المحنة الطارئة التي يمر عبد الوهاب، فيقدم عزاءه الصادق متأثراً لمحنته وهو بعيد عن وطنه، وبعد فترة صمت خيّمت على الجميع يقطعها طه حسين بأن يسأل شوقي بنبرة تعجب: ولماذا لا تغني؟ فيرد فكري أباظة: كيف يغني وهو مفجوع بوفاة أبيه؟ فيسود  الصمت المؤلم المُحيّر مجدداً على الحاضرين، لكن طه حسين الذي كان جوابه جاهزاً عندما سأل ذلك السؤال يقطع الصمت بتساؤلات فلسفية تنم عن عمق إحساسه بالفن الموسيقي والثقافة الموسيقية: "وهل الغناء لهو وفرح فقط؟ وهل الموسيقى تسلية وتطريب؟ أليست الموسيقى الحقيقية تعبيراً عن مشاعر الإنسان فرحاً وحزناً؟ أليس المهم في الموسيقى هو أن تعبر عن النفس، وأن تنقل هذا التعبير الصادق إلى السامعين؟ ألست أنت الفنان القائل: وأنبغ ما في الحياة الألم؟ ". 

واستطاع حسين بسيل هذه التساؤلات الجدلية المتتالية التي صبها على رأس عبد الوهاب، وكأنها صك فتوى بجواز غنائه في وفاة أبيه أن يُريح قلبه المضطرب بين فجيعته بوفاة والده من جهة وبين أسفه المحتوم والواجب لإلغاء الحفل الغنائي من جهة أُخرى،وعندها انخرط الحاضرون في حديث جدي ممتع حول ما تعبر عنه الموسيقى من صدق المشاعر  والأحاسيس لدى الفنان، وتنتهي تلك الجلسة باقتناع عبد الوهاب بعد إلغاء الحفلة في موعدها المضروب في مساء اليوم التالي، وطلب من متعهد الحفل الذي وضع إعلاناً في مكانه بإلغائه بإعادة تثبيت الإعلان الأصلي، فجاء الحفل بأروع ما يكون وحقق نجاحاً ساحقاً، فقد أحس الجمهور بصدق مشاعره وروعة أدائه. ومن المصادفات غير المتوقعة إن الأغنية التي أداها عبد الوهاب جاءت وكأنها تعبّر عن صدق أحاسيسه في الظرف المحزن الذي كان يؤدي فيه الغناء ، ذلك بأنه اتفق مع شوقي على أن يُغني في العام الذي قبله( 1927) قصيدته " الليل بدموعه جاني يا حمام نوح ويايا " وأن يتم تسجيلها على أسطوانة  لكنه لم يغنِها في حفلات عامة، إلا أنه في ذلك الظرف المشؤوم الذي مر به وهو في لبنان وبعد أن أقنعه العميد بالغناء، وجدها مواتية بأن يغنيها لأول مرة في حفل عام،وذرف حينها دموعاً غزيرة وهو يؤديها على المسرح لأول مرة وأبكى معه جمهرة الحاضرين في القاعة الكبيرة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية