العدد 5624
الجمعة 08 مارس 2024
banner
الجوع..
الجمعة 08 مارس 2024

عندما يصبح نقل أسباب الموت أيسر من نقل أسباب الحياة والأمن، فاعلم أنّ هذا العالم يعيش مفارقة غريبة.. وعندما يصبح نقل الأسلحة عبر الحدود لقتل المدنيين العزّل أسهل بكثير من نقل المساعدات الغذائية والصحيّة المطلوبة لإغاثة الأبرياء المساكين في غزة، فعلى هذا "العالم/الأكذوبة" الذي يدّعي التحضّر، الخزي والعار.
ها هو الكيان الصهيوني يمعن في استخدام سلاح التجويع أداة لفرض شروطه بعد انتكاسته العسكرية وعلى مرأى ومسمع من العالم الغربيّ "المتحضّر"، بل وبدعم سخيّ من الولايات المتحدة الأميركية التي "تعطي الذخيرة للاحتلال باليمين، وكسرة الخبز لشعب غزة بالشمال" وتدعم دون قيد أو شرط القوات الصهيونية عسكريا ولوجيستيا في عملياتها الوحشية، بل وتدافع عن الكيان وتقف ضد أي قرار إدانة أو قرار يدعو لوقف العمليات العسكرية من مجلس الأمن أو غيره من المنابر العالمية "الشكلية" بالرغم من علمنا أنّ قراراتها بشأن إسرائيل حبر على ورق. استطاع الاحتلال المدعوم علانية، وبكل حزم من القوى الاستعمارية العالمية، أن يحوّل قضية غزة من مطالبة بوقف إطلاق النار المشروط بالإفراج عن الأسرى من الجانبين إلى مطالبة بإغاثة سكان غزة بالمواد الغذائية، وتمحورت جهود الجميع حول إيصال المساعدات والغذاء إلى القطاع بعد أن غدا أهل القطاع بين خيارين لا ثالث لهما الموت جوعا أو الموت تحت القصف. وإذا كانت هناك فرصة للنجاة من الموت قصفا، فإنّ فرص النجاة من الموت جوعا تضاءلت حتى لتكاد تنعدم بعد أشهر من الحصار. ولا يستطيع أحد أن يتحدّث عن الجوع أو أن يصفه كما يعيشه أهل قطاع غزة منذ 150 يوما، هذا الجوع دفع الآباء والشباب في غزة إلى المجازفة بالحياة للحصول على ما يسدّ الرمق ويسكت بطون الأطفال الخاوية؛ فتغمّس الطحين بالدم واستشهد مئات الرجال في محاولة للحصول على مساعدة غذائية واختلط دمهم الطاهر بتراب الوطن وخبز الأولاد.. وانتشرت صور الموت المذلّ في محاولة لتحريض الرأي العام العالمي على حق الفلسطيني في الدفاع عن أرضه في غزة، وتحويل وجهة القضية الأساسية (وقف المجازر) عن مسارها لتفقد مكانها على رأس الأولويات ويصبح التعاطي مع الإغاثة قمة الأولويات.
لا شكّ أنّ غريزة حب البقاء البيولوجية تظلّ في مقدّمة سلم الأولويات البشرية، ولا شكّ أنّ الحقّ في الحياة يظلّ حقا مشروعا ومكفولا في جميع الشرائع والقوانين، لكنّ الشعب المنكوب في غزة يأبى أن يفصل بين هذه الحاجة الإنسانية وبين عقيدة/واجب البقاء في الأرض العربية الفلسطينية؛ فلا الجوع سيجبرهم على مغادرة أرضهم ولا القصف سيمنعهم من الاستمرار من البقاء على أرضهم، ولا الصمت الدولي الرسميّ سيكسر عزيمتهم. 
وإزاء هذا الصمت الرسمي الدولي تتعالى أصوات شعوب العالم وتخرج في بعض العواصم والمدن يوميا وفي أخرى أسبوعيا... آلاف بل ملايين من الجماهير من شعوب أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا تنزل إلى الشوارع تطالب بحقن الدم وتقديم المساعدات الطبية والغذائية لأطفال غزة.. ولا من مجيب! هذه هي بعض ملامح القرن الحادي والعشرين قرن المفارقات بامتياز.. قرن يموت فيه الأطفال جوعا.. هو قرن الذكاء الاصطناعي والقرية الكونية وأهداف الألفية.. قرن السلام العادل والتنمية المستدامة والأمن الغذائي، وقمّة المناخ وجمعيات الرفق بالحيوان.. وهلمّ جرّا من الكلمات والمسمّيات التي لم تعد تُجدي لحياة ولا تحمي من موت.

كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .