العدد 5613
الإثنين 26 فبراير 2024
banner
"رفح" وتناسل النكبات
الإثنين 26 فبراير 2024


ما من روائي عربي غير فلسطيني عبّر عن محن وعذابات الشعب الفلسطيني منذ نكبة 48، كما عبّر عنها الروائي اللبناني إلياس خوري، حتى بدا وكأنه واحد من أبناء هذا الشعب الذين ذاقوا مرارة النكبة وتجرعوا أهوالها وعذاباتها على امتداد ثلاثة أرباع القرن منذ يومها المشؤوم، وسبق أن تناولنا في أوائل ديسمبر الماضي تحت عنوان "النكبة وصراع الكلمات" تأثير بعض رواياته في جيل الشباب الفلسطيني، إلى درجة أنهم وجدوا فيها ما يعبّر بعمق عن محنة شعبهم، ومن فرط إعجابهم بروايته "باب الشمس" قررت مجموعة منهم تأسيس قرية صادرتها قوات الاحتلال في القدس وأسموها باسم الرواية، لكن مشروع حلمهم في هذه القرية أجهضته قوات الاحتلال، إذ تم تدمير بيوتها وتهجير سكانها، ثم أُعيد بناؤها مجددا بسواعدهم وسُميت "أحفاد يونس" وهو اسم مستمد أيضاً من إحدى الشخصيات الرئيسة في روايته نفسها. والحق أن هذا الروائي اللبناني يستحق أن نطلق عليه "مؤرخ النكبة روائياً" كنكبة ممتدة زمنياً على امتداد أجيال متعاقبة من الفلسطينيين الذين شاركوا آباءهم وأجدادهم نصيبهم في دفع فواتيرها الباهظة دماً وأرواحاً وبكل ما يُعرف من صنوف القهر والتنكيل والقتل والإبادات الجماعية والاضطهاد والتشريد والتي خبرها أولئك الآباء والأجداد الأوائل في نكبة 48. ولم يكن غريباً ذلك على خوري، وهو الذي وصفه المفكر اللبناني الراحل كريم مروة بأنه "فلسطيني الانتماء حتى العظم"، فقد سبق له أن انضم إلى حركة "فتح" وحارب في صفوف مقاتليها، وشارك - كتابة وإدارة تحرير - في الصحافة الفلسطينية. وجاء كتابه الأخير الصادر في العام الماضي بعنوان "النكبة المستمرة" وكأنه استشراف صادق لأحداث نكبة غزة الحالية؛ باعتبارها نكبة جديدة من سلسلة النكبات المتناسلة من النكبة الكبرى التي وصفها بأنها مسار طويل بدأ في 1948 وامتد بأشكال متنوعة ومتعرجة حتى اليوم، فالنكبة مازالت مستمرة. وهذا ما ينطبق تماما على "نكبة غزة" الحالية حيث يتوعد جيش الاحتلال الإسرائيلي أهلها المطرودين من غزة اللاجئين إلى "رفح" بنكبة جديدة من خلال تصميمه على اجتياح المدينة المكتظة اكتظاظاً شديداً بأكثر من مليون لاجئ فلسطيني، علماً أن السواد الأعظم من سكان القطاع ومخيماته كانوا في الأصل من المنكوبين المهجّرين من نكبة 48 والذين ظلوا يعيشون ويتناسلون فيه حتى أضحوا مليونين ونيفاً إلى ما قبيل "نكبة غزة" على رقعة لا تتجاوز نصف مساحة البحرين، ونصف هذا العدد بات اليوم محشوراً في مدينة رفح ذات الرقعة الأصغر!
وإذا كانت إسرائيل قد صمت أذنيها عن سماع كل المناشدات الدولية لوقف عدوانها على غزة والامتناع عن اجتياح "رفح" مأوى من شردتهم قسراً، فما كان لها أن تتمسك بهذه الغطرسة وأن تجعل نفسها فوق القوانين الدولية لولا المواقف الأميركية الداعمة لها بكل أشكال الدعم بلا تحفظ، ولولا أيضاً العجز العربي المزمن والمستفحل على المستويين الرسمي والشعبي، حتى وصل بنا العار لأن نشهد دولاً ومواقف دولية عديدة باتت تخوض نضالاً عنيداً بالنيابة عنا لأجل القضية الفلسطينية، لا بل وتتبناها وكأنها قضيتها، معبرةً بمختلف أشكال الاحتجاجات القوية المؤثرة ضد حرب الإبادة الإسرائيلية بحق أشقائنا الفلسطينيين، فيما بتنا نتفرج عليها ونحن نتخبط من سيء إلى أسوأ في أرذل أشكال العجز غير المسبوق تاريخياً .

كاتب بحريني
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية