"لدي ما يفوق قدرتي على القراءة طوال ما تبقى من حياتي؛ ورغم ذلك لا أزال أضيف العشرات منها كل شهر إلى أرفف مكتبتي. ظل الإحساس يلازمني سنوات إلى أن قرأت مقالاً كتبته جيسكا ستلمان على موقع مجلة Inc بعنوان "لِمَ ينبغي عليك أن تحيط نفسك بكتب أكثر مما لديك من وقت لقراءتها؟"، وفيها تقول ستلمان: "إن المكتبات الشخصية التي تتعدى قدرة أصحابها على القراءة طوال عمرهم ليست إشارة إلى الفشل والحماقة، بل وسام شرف". هذا مما ورد في مقال للكاتب الأميركي كيفين ميمز بعنوان "الكتب التي اشتريتها ولم نقرأها" في "نيويورك تايمز" ونشرته " أخبار الأدب" المصرية مترجماً من قِبل مجدي خاطر (عدد 4 نوفمبر 2023)، ويختتم ميمز مقاله بهذه العبارة الجميلة بعيدة المدى في مغزاها: "ربما تُذكرك رؤية كتاب قرأته بالأشياء الكثيرة التي تعلمتها منه؛ والكتاب الذي لم تقرأه بالأشياء الكثيرة التي لم تتعلمها بعد، والكتاب الذي قرأت جزءاً منه بأن القراءة نشاط تأمل لا تصل إلى نهايته أبداً ". في الحقيقة لم أجد ما يعبر بدقة متناهية عن خلجات نفسي في النهم المهووس لاقتناء الكتب الذي ظل ملازماً لي منذ بداية دراستي الجامعية، كما عبّر عنه الكاتب ميمز في علاقته هو الآخر المهووسة في جمع الكتب،كما لم أجد تبريراً جميلاً مريحاً للنفس لمن يعاني ويحتار في ذلك الطبع الذاتي المثير لاستغراب أو حتى سخرية من يلحظه، كما وجدته عند جيسيكا ستلمان. وبالرغم من أن الكتب تلتهم ما لايقل عن ثُلث "معاشي" الشهري التقاعدي المتواضع في أغلب شهور السنة، فلطالما وجدتني عاجزاً عن التخلص من هذا "الطبع المرَضي المستديم، ضعيفاً أشد الضعف في مقاومة إغراء عنوان أي كتاب جديد يقع ناظري عليه ويدلني فهرسه وتصفيحه على قيمة محتواه، وفي تعبيرٍ لمجنون الكتب المُعدم "كلودة" في رواية "إيكادولي" لحنان لاشين يقول: "أنا أتنفس الكتب" أجده ما ينطبق على حالي بالضبط تماماً.
ويُعد شهر يناير من كل عام الأكثر استنزافاً لميزانية العبد لله حيث يحل موسم شد الرحال إلى القاهرة لزيارة معرض الكتاب، ويزيد من هذا الاستنزاف أحيانا حينما يفوق ما لديك من حمولة كتب بأكثر مما هو مسموح لك من وزن في الطائرة. ويُعد معرض القاهرة الأضخم في العالم العربي، ومما يحفزك على زيارته رخص أسعار كتب الأجنحة المصرية، سيما التي تصدرها دور نشر القطاع العام، مقارنة ببقية الأجنحة العربية الأخرى الأعلى سعراً، وكذلك طقس القاهرة الشتوي المشمس الرائع في مثل هذا الوقت من السنة، فيما يصافحك نيلها الخالد المضياف باشاً باسماً عن ثغره. أضف إلى المتعة التي تشعر بها وأنت تختلط بناسها البسطاء الطيبين في الفندق وفي المقاهي والمترو، ومع عامة المثقفين.
علاوة على ذلك يشكل المعرض فرصةً لمن يستهويه حضور ندواته المهمة، وهو أيضاً فرصة لي لملاقاة الكثير من رواد المعرض من المثقفين والتعرف على أصدقاء جُدد من أمثالهم، وهو إلى ذلك فرصة موسمية أيضاً لملاقاة معارفي من أصحاب دور النشر العربية الشهيرة، والذين أخذوا يحاصرونني بتساؤلات سبق لهم طرحها عليّ في معرض العام الماضي: أين معرض البحرين للكتاب؟ هل تقرر استئناف تنظيمه؟ ولماذا توقف منذ سنوات؟ ولا أجد عندي من إجابة شافية رداً على تساؤلاتهم المحرجة سوى القول: العلم عند الله وعند الجهات المسؤولة عن تنظيمه. وها نحن في أحر من الجمر نأمل بأن تتلطف الجهات المعنية بالرد، سواء إن كانت ثمة ظروف تحول دون قدرتها على الانتظام في تنظيم المعرض، أو إن كان لديها موقف، لا سمح الله، من هذا "العرس الثقافي" الذي يحق لأية دولة في العالم وبضمنها دولنا الخليجية أن تفتخر به كدلالة على تحضرها.
كاتب بحريني