هل الوضع العالمي والإقليمي يستدعي إعادة قراءة مشروع "السلام الدائم" الذي طرحه الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، قبل مئتي عام، مرة جديدة في وقتنا الحاضر؟
الشاهد أنه يمكن اعتبار "إيمانويل كانط"(1724 - 1804) آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وأحد أهم فلاسفة عصر التنوير، ذاك الذي بدأ بالمفكرين البريطانيين أمثال جون لوك، جورج بيركلي، ديفيد هيوم. يستحضر المرء روح كانط وأفكاره، والإقليم مشتعل، بينما أجواء الحرب الباردة تخيم على سماوات العالم من جديد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أية مواجهة كونية قادمة قد لا تبقي ولا تذر، انطلاقا من أن أدواتها للموت ستكون أبشع وأشنع مما عرفته البشرية في منتصف القرن العشرين. استشرف كانط قبل قرنين مآلات الإنسانية المتناحرة اليوم، ولهذا وضع كتابه الذي يحمل اسم "مشروع السلام الدائم.. تصور فلسفي"، عام 1795، أي قبل وفاته بنحو تسع سنوات، وقد صاغه على هيئة معاهدات دبلوماسية زرع فيها بذور التشريع لسلام دائم، مؤكدا أن خلاص الجنس البشري يكمن في تحقيق الكمال الأخلاقي، وأن يعرف ماهية السلام وآليات تحقيقه. أعظم ما في فكر كانط ثقته المطلقة في الإنسان، ومن الواضح أن جذوره الدينية العميقة زرعت فيه فكر استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها، لا لخرابها، فقد تربى على تقاليد مسيحية متشددة، ومضى على منهج الفرقة التقوية المسيحية، وهي حركة بروتستانتية تؤكد على التقوى والزهد والبساطة، وعلى قبول المرء حاله في هذه الحياة، وفي نفس الوقت عدم الاكتراث أو الاهتمام بما يفرق البشر من تعصب أو تمذهب. العودة إلى عالم "مشروع السلام" الدائم عند كانط، والذي قد لا يسمح المسطح المتاح للكتابة بالاستفاضة عنه، يتم تجذيره في نفوس الخلق منذ الطفولة عبر التربية الأخلاقية، ذلك أن السلام بالنسبة له فكرة أخلاقية قبل أن يكون برامج سياسية، فالأخلاق تعمل على تكوين العقل الراشد المستنير.
في سطور كتابه الذي بات مرجعا أمميا للساعين إلى بناء ملكوت السلام على الأرض، نجد أن تلك القيمة السامية هي المظلة الوحيدة التي تخلق رابطا أعظم ومشتركا لسياسة كونية تستنقذ البشرية من وهدة الصراعات ومآسي الحروب، وعنده أن السلام الدائم لا يتعلق بحضارة بذاتها أو أمة بعينها، بل هو دعوة عالمية لكل البشرية من غير تخصيص أو تمييز، وبدون أية محاصصة قائمة على لون أو عرق أو دين.
الفكرة الرئيسة في "مشروع السلام الدائم" لكانط يمكن بلورتها في طرح قيام حلف بين الدول لمنع الحروب وتجنب ويلاتها، ما يعني أنه الكتاب الضد من رؤية عالم الاجتماع السياسي الأميركي "صموئيل هنتنجتون"، الخاصة بإعادة تقسيم العالم إلى فسطاطين متقابلين ومتناحرين بالضرورة.
يكاد الناظر إلى الأزمنة التي خرج فيها مشروع كانط إلى النور يوقن بأن هناك تشابها بينها وبين أوقاتنا الحاضرة، ذلك أن تنامي الأصوليات من جهة واشتداد عود القوميات والشوفينيات مرة جديدة، أمور كفيلة بتحويل وجه العالم إلى صراع مؤكد بعيد كل البعد عن دولة المواطنة التي بشر بها كانط، ونادت بها الثورة الفرنسية، حيث الإخاء والمساواة والحرية المرتكزات الأساسية لأية ديمقراطية وسلام قائمين أو قادمين.
من أنفع وأرفع ما يخرج به القارئ لكتاب "مشروع السلام الدائم"، إيضاح العلاقة بين الديمقراطية والسلام، فلا يصح التعويل على نشر الديمقراطيات في مناطق تعرف الحروب وعدم الاستقرار، ومن هنا يتضح للمرء أن السلام سابق وصانع للديمقراطيات الحقيقية وليس العكس، ولهذا يقطع كانط بأننا إذا كنا نريد تكريس القيم الديمقراطية، فإن السلام هو المدخل الصحيح والمريح لها، فالديمقراطية السامية لا تقوم إلا في ظل سلام عالمي لأن القضاء على السلام يعني القضاء على الديمقراطية.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية