في ثمانينيات القرن الماضي ظهرت في إسرائيل جماعة من الباحثين أطلق عليها "المؤرخون الجدد"، يملكون رؤية جديدة للسردية الإسرائيلية تختلف عن السردية المعتمدة في الجامعات والمدارس ومراكز الأبحاث في عموم إسرائيل، تقترب رؤيتهم كثيرا من الرؤية العربية. استطاع أصحاب هذا التيار أن يدحضوا الكثير من الأساطير الإسرائيلية بعد إخضاعها للبحث الحر والتفكير العقلاني، من هذه الأساطير أسطورة أو مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فهؤلاء المؤرخون الذين ولدوا مع النكبة يعلمون جيدا أن هذه الأرض كانت معمورة بالفلسطينيين.
إسرائيل شاحاك أحد أبرز المؤرخين الجدد كان شديد الانبهار بشخصية ديفيد بن جوريون لكنه أعاد النظر في تقديره له بعد أن أصدر بن جوريون كتابه "مملكة إسرائيل الثالثة" شرح فيه نظريته العدوانية في حربي 1956 و1967 وكذلك مجزرة كفر قاسم. يقول شاحاك: إن حقيقة أوضاع القرى العربية التي كانت موجودة قبل حرب 1948 مكان الأرض المقامة عليها إسرائيل الآن، من أشد الأسرار في الحياة الإسرائيلية، فقد قرأنا في الكتب المدرسية عن أرض بلا شعب، بينما هناك 385 قرية عربية دمرتها إسرائيل وأبادتها من أصل 475 قرية كانت موجودة قبل 1948، وتم إرغام 750 ألف فلسطيني على الرحيل، وتم حفر مقابر جماعية للقتلى في دير ياسين وغيرها، ويخلص شاحاك إلى اتهام إسرائيل بالتطهير العرقي والعنصرية الكاملة. كل هذا قبل عمليات الإبادة في غزة.. فكيف جاء حكم محكمة العدل هزيلا؟ هذا ليس موضوعنا الآن. نحمان بن يهودا أحد المؤرخين الجدد عمل على تفنيد أسطورة "المسادا" وهي أسطورة قديمة تزعم الأدبيات الصهيونية أن "المسادا" تعبير عن بطولة يهودية ضد الرومان، حين فضل جماعة اليهود الفارين من القدس الانتحار والموت في قلعتهم على أن يستسلموا للرومان، ويصبحوا عبيدا لهم أو يموتوا على أيديهم، بينما أثبت البحث التاريخي أن هؤلاء الذين يعدون في نظر اليهود أبطالا كانوا مجرد عصابة من القتلة تقوم بعمليات الاغتيال ضد اليهود والرومان على حد سواء. وقد تم طردهم على يد اليهود لا الرومان، وهلكوا في أعالي المسادا.
هذه الأسطورة الكاذبة وغيرها مازالت تسلب عقول الإسرائيليين وقلوبهم، وتجعلهم يتوقون للقتل والتدمير. وينقل بن يهودا عن موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي أن المسادا أصبحت في نظر الشعب اليهودي رمزا للبطولة والحرية.
هذه الأساطير وتلك الأكاذيب سواء في التاريخ الحديث أو التاريخ القديم دعت المؤرخين الجدد للقول بفشل الحلم الإسرائيلي رغم نجاح الآلة الإسرائيلية في سحق الفلسطينيين.
كل ذلك كان قبل أحداث 7 أكتوبر وإبادة الفلسطينيين في غزة، وأمام سيل الأساطير الكاذبة ضعف تيار المؤرخين الجدد لكن المستقبل الهش لدولة إسرائيل سوف يثبت أنهم كانوا على حق.
مدير تحرير "الأهرام"