العدد 5552
الأربعاء 27 ديسمبر 2023
banner
800 عام على مغارة غريتشو
الأربعاء 27 ديسمبر 2023


ذكرى ما تميز احتفالات الكريسماس وأعياد الميلاد هذا العام، ذلك أنه لن يكون الاهتمام منصبا هذا الموسم على شجرة الميلاد التقليدية، بل سينصرف الجميع، شرقا وغربا، إلى الاحتفال بذكرى "أول مغارة" ميلاد، ظهرت في أوروبا والعالم، قبل 800 عام، في مدينة غريتشو في إيطاليا؟ ما قصة هذه المغارة، ومن الرجل الذي قدمها للعالم، وما الذي قصده من وراء هذا النموذج للمغارة التي ولد فيها السيد المسيح قبل ألفي عام بحسب التقويم الميلادي؟
للقصة وجه آخر، ربما لا علاقة له بالكريسماس واحتفالاته، بل على العكس، ربما كانت ذكريات مؤلمة للإنسانية الساعية للتعايش والسلام، عوضا عن الكراهية والخصام. قبل نحو 800 عام وجد في إيطاليا شاب من ذوي الحسب والنسب، "فرنسيس برنردوني"، والمولود في مدينة أسيزي، تلك التي ستصبح عبر القرون، مدينة رمزية للسلام العالمي. أنشأ فرنسيس حركة صوفية عرفت باسم "الاخوة الأصاغر"، ولم يكن له من مراد سوى تمجيد الخالق في خليقته، وقد عُرف عنه أنه متصوف الطبيعة الأشهر، وينسب له ما يعرف بـ "نشيد الكائنات أو الخلائق"، وفيه يناجي الخالق من خلال مخلوقاته، والذي يستهله بالمقطع الشهير "سبحان ربي الخالق.. مبدع كل الخلائق". وجد فرنسيس خلال ما سمي بزمن "الحروب الصليبية"، كما أسماها الفرنجة، أو "حروب الفرنجة"، كما أطلق عليها العرب، وقد بلغ من رفضه لها مخاطبته لبني جنسه الماضين مدججين بالسلاح إلى الشرق لملاقاة أهله، قاصدين مدينة بيت لحم، والقدس، قوله "ليس الشرقيون من يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة بل غضب الله العادل". في مدينة دمياط المصرية، التقى فرنسيس السلطان الكامل، ابن الملك العادل الأيوبي، والذي أحسن استقباله، بل وأحبه، وكان من الممكن له أن يعتبره عدوا أو جاسوسا، لكن عوضا عن ذلك دارت بينهما مساجلات فكرية، قربت بين قلبيهما، رغم المعارك المشتعلة من حولهما. كان من محبة السلطان لفرنسيس أنه أعطاه الإذن بأن يذهب إلى الأرض المقدسة في فلسطين، حاجا إلى الله، وفي بيت لحم زار المغارة التي ولد فيها المسيح.
حين زار فرنسيس موقع وموضع الميلاد في مدينة بيت لحم، راعه هذا التواضع الكبير، فقد حدث الميلاد في مغارة صغيرة كانت للرعاة، وقد رغب أن يحج مرة كل عام في مثل هذا الزمن، أي زمن الكريسماس أو الميلاد، غير أن الأمر وبحسابات ذلك الزمان، ووعورة الطريق، وحديث الشقاق والفراق، بل والحروب بين العرب والفرنجة، جعل الأمنية شبه مستحيلة. 
حين عودته إلى إيطاليا، وبالتحديد في العام 1223، أراد فرنسيس أن يتذكر ويذكر مواطنيه بحدث الميلاد التاريخي، من منظور الزهد والنسك والفقر الاختياري، وبعيدا عن مفاهيم العظمة والفوقية التي كانت لملوك أوروبا وأمرائها في تلك الأوقات.
ولدت فكرة المغارة في ذهن فرنسيس، لينقل للأوروبيين، حقيقة وروحانية الميلاد، المتجرد عن بهرجة العالم الخداع، وهو ما عبر عنه مؤخرا الأب "بيترو ميسا"، من خلال مجلة "بورتسيونكلا" الصادرة في مدينة أسيزي بقوله: "كان فرنسيس مدفوعا بروحانية يمكن تسميتها "الواقعية المسيحية"، أي تلك النظرة التي تعطي الاحترام اللازم للجسد، والتي تتعارض مع من يبالغ بإعلاء شأن الروح على حساب الجسد، كتلك البدع التي كانت سائدة في ذلك العصر، لاسيما بدعة "الكاتاريين"، أولئك الذين كانوا يؤمنون بأن الروح تنتمي إلى عالم القداسة، أما الجسد فمحسوب على معسكر الدنس والنجاسة".
هل تأثر فرنسيس بأفكار الشرق الخلاق من خلال رحلاته لمصر وفلسطين وما حولهما من أراضي بلاد الشام والهلال الخصيب في ذلك الوقت؟
غالب الظن أن هذا ما جرت به المقادير بالفعل، والعهدة هنا على المؤرخ الإيطالي الشهير "توما الشيلاني"، كاتب سيرة فرنسيس. 

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية