العدد 5545
الأربعاء 20 ديسمبر 2023
banner
فلسطين وواشنطن والحرب العادلة
الأربعاء 20 ديسمبر 2023

يبدو أنه بات على الغرب وفي المقدمة منه المؤسسات الدينية الكبرى، كالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مراجعة مفاهيم سادت طوال قرون، بلغت خمسة عشر قرنا، وذهب البعض إلى أنها كانت بشكل أو بآخر وراء إذكاء حالة الأصولية الدينية، تلك التي ترجمت لاحقا في صوت وصورة حروب ما أنزل الله بها من سلطان، تبدأ من عند حدود الحروب الدينية، أو حروب الفرنجة، كما أسماها العرب، وصولا إلى غزو أفغانستان والعراق، عطفا على بقية المخططات التي تجري في الخفاء. في مقدمة تلك المفاهيم، يأتي الحديث عن مفهوم الحرب العادلة (Bellum Iustum). 
والشاهد أن فكرة الحرب العادلة استمدت أصولها وجذورها الفكرية من الطروحات التي ساقها العلامة والقديس والفيلسوف أوغسطينوس في موسوعته الخالدة "مدينة الله" (De Civitate Dei) ولاحقا بلورها العلامة الدومنيكاني الأشهر "توما الأكويني" في خلاصته اللاهوتية الشهيرة (Summa theologica). فكرة الحرب العادلة، وبعيدا عن الإغراق في أعماق التحليلات اللاهوتية، تقوم على تبرير انخراط المسيحيين الغربيين في الحروب، طالما وجدت أسبابا عادلة تدعو إليها، وأن يكون الهدف منها إقامة السلام العادل. والمؤكد أن أحاديث ونقاشات كثيرة جرت داخل المؤسسة الكاثوليكية لاسيما بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965) حول مفهوم الحرب العادلة وشروطها، والتمييز الواجب توافره للتفريق بين تلك العادلة وغير العادلة، وقد تبلورت الرؤية النهائية لهذا المفهوم في كتاب التعليم المسيحي الجديد للكنيسة الرومانية الكاثوليكية والذي صدر عام 1997، والذي لخص مسألة استخدام قوة في البند (2309) وفيه بحسب النص: "يجب التبصر بدقة في الشروط الصارمة للدفاع المشروع بالقوة العسكرية لأن خطورة قرار كهذا تقتضي إخضاعه لشروط صارمة تتطلبها الشرعية الأخلاقية. فيجب في آن واحد "أن يكون الأذى الذي ألحقه المعتدي بالأمة أو بجماعة الأمم ثابتا وخطيرا وأكيدا، وأن يتبين أن جميع الوسائل الأخرى لوضع حد له مستحيلة أو غير نافعة، وأن تتوافر شروط جدية للنجاح، وأن لا يؤدي استعمال السلاح إلى شرور واضطرابات أخطر من الشر الذي يجب دفعه".
هل تم التلاعب لاسيما من قبل الجماعات اليمينية والأصولية في الغرب بهذا المفهوم لتبرير حروب غير عادلة بالمرة على أساس من "العدالة الأوغسطينية" إن جاز التعبير؟
الشاهد أن هذا بالفعل ما جرت به المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص بعد الهجومات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر من عام 2001، فقد اختطف المحافظون الجدد، مفهوم الحرب العادلة، وجعلوا من أفغانستان والعراق مجالا لتطبيقه، ولاحقا روج البعض لمفهوم "التدمير الخلاق"، والذي اصطلح لاحقا على تسميته "الفوضى الخلاقة" كتبعات لذات الفكر، أي للحرب العادلة.
لم يتوقف الأمر هنا على القيادات السياسية أو العسكرية الأميركية من البيت الأبيض مرورا بالخارجية، وصولا إلى وزارة الدفاع "البنتاجون"، بل امتد المشهد ليشمل قطاعا واسعا ومؤثرا من المثقفين والإعلاميين وكبار الكتاب والفنانين الأميركيين، هؤلاء الذين أداروا وبقوة "رأس الرئيس بوش"، عطفا على بقية الرأي العام الأميركي لجهة استخدام القوة، وإعلان الحرب "العادلة" ضد الدول التي جاء منها صناع الهجومات في ذلك الثلاثاء الحزين، وقد كانت دعواهم تتصل في الشكل والمضمون بالتقسيم المانوي الخطير الذي أعاد "بوش الابن" التذكير به، أي "من معنا ومن علينا"، "محور الخير ومحور الشر"، وقد كان لهذا الخطاب دوره الممتد حتى الساعة في إشعال العالم بحروب ذات مسحة أصولية، غير عادلة بالمطلق، إذ لا تنطبق عليها الشروط المؤكدة سواء عند أوغسطينوس أو الأكويني.
لماذا نعيد قراءة هذه الملف مرة ثانية هذه الأيام؟
قطعا، يبقى ما يجري في الأراضي الفلسطينية، من حرب وحشية ضد المدنيين العزل، ورفض الولايات المتحدة الأميركية التدخل ووقف إطلاق النار هو السبب، فهل تؤمن واشنطن أنها أمام حرب عادلة جديدة ولو كانت أبوكريفية؟.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية


 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية