إحدى أكبر المآسي التي أصابت البشرية في القرن العشرين وتمتد تجاذباتها وتقاطعاتها إلى القرن الحادي والعشرين، التلاعب بالأديان والمؤمنين التابعين لها. منذ العقد الثالث من القرن الماضي جرى تلاعب بالأديان، ما وضع المسيحية والإسلام واليهودية بنوع خاص في صراع مرير لا معنى له، ولهذا عوضا عن الحوار والجوار رأينا الفتن والفرقة. في ثلاثينيات القرن الماضي استغل هتلر المسلمين في جمهوريات الاتحاد السوفيتي استغلالا سياسيا، وعند المؤلف الكندي "إيان جونسون" في كتابه الشهير "مسجد في ميونيخ" الكثير جدا من الروايات التاريخية الموثقة في هذا الإطار.
بريطانيا بدورها يحفل تاريخها القريب والبعيد بالأمر نفسه، فهي بدرجة أو بأخرى استطاعت التلاعب بجماعات معينة في العالمين العربي والإسلامي لوقف المد القومي العروبي الذي كان قد بدأ يتشكل في العقدين الأولين من القرن الماضي. أما عن الولايات المتحدة الأميركية فحدث ولا حرج، فهي منذ أن ورثت بريطانيا، لعبت وحتى الساعة على أوتار الإسلام السياسي، في مواجهة المعسكر الشرقي، وفي طريقها أحيت جماعات أصولية فكريا، وسلحت أخرى تسليحا كان السبب المباشر في ظهور وارتقاء الإرهاب العنيف في العقدين الماضيين.
هل هذا هو الدور المنوط بالأديان حول العالم، أو كما يجب أن يكون؟ المقطوع به أن الأديان أرست حقوق الإنسان، ورفضت أن يكون أداة تسخر لخدمة الآيديولوجيات المختلفة، وربما يظن البعض أن مصطلح حقوق الإنسان يعود إلى قيام الثورة الفرنسية، غير أن حقيقة الدعوة إلى ممارسة هذه الحقوق سبقت قيام الثورة الفرنسية بآلاف السنين، بل سبقت الحقوق والواجبات التي أتت بها الأديان الكتابية، وإن كانت الأخيرة هذه قد عززتها على نحو غير مسبوق. كانت الأحكام القانونية في المجتمعات القديمة وليدة الدين، سواء نزلت في هيئة شرائع أو انبثقت من السلطات الكهنوتية مثل الحقوق المصرية والبابلية. والمعروف أن المجتمعين اليوناني والروماني القديمين نهلا حقوقهما من الطقوس البدائية وعبادة الأسلاف التي كانت تقوم على الدين، وحقوق الإنسان التي بلورتها الأديان السماوية لاحقا وأكدت عليها، كانت قائمة في النفس البشرية كفطرة أساسية وأزلية. دعونا نستمع إلى نموذج لخطبة أحد الأفراد في المحكمة الأويزرية أو "قاعة الحق" كما كانوا يسمونها أمام القضاة الأربعة والعشرين، وذلك بحسب ما ورد في أشهر كتب المصريين القدماء المعروف باسم "متن الموتى"، فيما الاسم الصحيح له هو "الخروج إلى النهار".
هذا النص يرجع تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام ويتضمن السلوك العادل والإقرار بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ما يمثل روح الأديان والإيمان التي جبلت عليها الفطرة الإنسانية.
ورد في النص ما يلي: (انظر.. إني أحضر بالعدل.. إني لم أرتكب ضد الناس أية خطيئة.. إني لم آت سوءا في مكان الحق. إني لم أرتكب أي شيء خبيث، وإني لم أفعل ما يمقته الإله. إني لم أترك أحدا يتضور جوعا، ولم أتسبب في بكاء إنسان. إني لم أرتكب القتل أو آمر به. إني لم أنقص طعاما ما في المعابد، إني لم أرتكب الزنى. إني لم أنقص مكيال الحبوب. إني لم أنقص مقياس الأرض، إني لم أغتصب لبنا من طفل. إني لم أطرد الماشية من مرعاها. إني لم أمنع المياه عن أوقاتها).
يخال المرء أن هذا النص كتب بالأمس لشدة قربه من واقعنا البشري الحالي، حيث تغتصب الأراضي، وتمتهن حقوق الإنسان باسم مواريث دينية تاريخية، وتختل الموازين، ويزداد الفقراء فقرا ويتشرد الأطفال.. ويبقى السؤال قبل الانصراف هل حان الأوان لعودة الأديان كركيزة أساسية في طريق كرامة الإنسان؟.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية