العدد 5460
الثلاثاء 26 سبتمبر 2023
banner
المهاجرون ليسوا غزاة
الثلاثاء 26 سبتمبر 2023

واحدة من أهم القضايا المصيرية التي اتخذ فيها البابا فرنسيس موقفًا واضحًا وصريحًا، وإن أغضب الكثير من القوى اليمينية الأوروبية الماضية في طريق القومية وتطرفها، هي علاقته بإشكالية الهجرة والمهاجرين، ولاسيما أولئك الذين تدفقوا على أوروبا في الأعوام الأخيرة، جراء أسباب عدة؛ فهناك اللاجئون الذين هربوا من أزمات ما أطلق عليه الربيع العربي، والضحايا الذين هربوا من جحيم الحرب الأهلية، وملاحقة التنظيمات المتطرفة لهم في سوريا والعراق، إضافة إلى الهاربين على الدوام من أفريقيا؛ حيث الفقر والفساد والاستبداد السياسي، وجلها عوامل طاردة وليست جاذبة، وقد كانت أوروبا وجهة هؤلاء وأولئك، ومن هنا تجلت أبعاد الإشكالية التي نحن بصددها.

لماذا كان على فرنسيس أن يتكلم؟ باختصار غير مخل لأن المعضلة مزيج من الروحي والإيماني والإنساني؛ ولهذا فإنه لا يمكن لرجل دين، أن يقف مكتوف الأيدي أمام صراع بين البشر، هدفه الحياة والبقاء. لكن على الجانب الآخر من الأزمة كان هناك فريق آخر من دعاة اليمين الأوروبي المتشدد، يرى أن هذا التيار، تيار الهجرة، يمثل أزمة كارثية، ويُعد تهديدًا حقيقيًا لمستقبل أوروبا، اقتصاديًا وإيمانيًا، اجتماعيًا وأخلاقيًا، وأنه يجب أن لا تستقبل أوروبا المزيد من هؤلاء وأولئك، وأن توصد أبوابها في وجوههم بالمرة وإلى الأبد.

لم يكن فرنسيس ليفعل ذلك؛ ففي بدايات الأزمة وتحديدًا في سبتمبر 2015، دعا البابا فرنسيس أساقفة أوروبا لاستقبال اللاجئين، وقال إنه يجب على كل أسقفية وجماعة دينية ودير وملجأ في أوروبا أن تؤوي أسرة واحدة، مضيفًا أنه سيبدأ مع أبرشيته في روما، وأن رعيتي الڤاتيكان تستقبلان خلال الأيام المقبلة عائلتين لاجئتين، الأمر الذي حدث بالفعل لاحقًا. في ذلك الوقت كان فرنسيس يتهيأ لإعلان "يوبيل الرحمة"، وساعتها أعلن أنه: "في مواجهة مأساة عشرات الآلاف من طالبي اللجوء الهاربين من الموت، وضحايا الحرب والجوع الذين هم على الطريق بحثًا عن رجاء في الحياة؛ فإن الإنجيل ينادينا ويطلب منا أن نكون أقرباء للصغار والمتروكين ونمنحهم رجاء ملموسًا".

لماذا الحديث مرة أخرى عن البابا فرنسيس بابا روما، وعن علاقته بالمهاجرين؟ قطعا جاءت زيارة الحبر الأعظم إلى مدينة مارسيليا بالأيام القليلة الماضية، والتصريحات التي أدلى بها لتفتح من جديد الباب واسعا للحديث عن أزمة الهجرة والمهاجرين.

في جمع ضم أساقفة وشبابا من دول مطلة على البحر الأبيض المتوسط، قال فرنسيس إن "هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم في البحر ليسوا غزاة".

أضاف فرنسيس نهار السبت الماضي ملمحا جديدا لواقع حال أزمة الهجرة، لا سيما من الجنوب الإفريقي إلى الشمال الأوروبي، وذلك من خلال كلماته التي أكد فيها أن "الهجرة لم تعد حالة طوارئ، وإنما هي واقع حال عصرنا، وعملية تقع أحداثها في ثلاث قارات تحيط بالبحر المتوسط، ويجب أن تُدار ببصيرة، بما في ذلك استجابة أوروبية". ما الذي تمثله الهجرة لبؤساء الجنوب بالنسبة لصاحب الكرسي الرسولي؟

بحسب كلماته، هي صرخة يتردد صداها مغطيا على غيره، وإنها لتحول البحر الأبيض المتوسط من مهد للحضارة إلى مقبرة للكرامة، إنها الصرخة المخنوقة لإخواننا المهاجرين".

فرنسيس البالغ من العمر 86 عاما، اعتبر أنه واجب على الإنسانية أن تسعى في طريق إنقاذ المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر المتوسط، محذرا من تبعات اللامبالاة ومما يورثه الخوف.

رؤية فرنسيس لقضية المهاجرين تخلص إلى القول إن البشر على المحك، والأمل لا يتعلق بالمهاجرين فحسب، إنما بنا جميعًا، بحاضر العائلة البشرية ومستقبلها؛ فالمهاجرون ولاسيما الأكثر ضعفًا، يساعدوننا على قراءة علامات الأزمنة، والرب يدعونا من خلالهم إلى استعادة حياتنا الإيمانية بكاملها، وإلى تحرير أنفسنا من المعاملات التفضيلية، واللامبالاة وثقافة التهميش، ويدعونا من خلالهم إلى استعادة روحانياتنا بكاملها وإلى الإسهام، كل حسب دعوته، في بناء عالم يجيب على نحو أفضل على مشروع الله للإنسانية جمعاء.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .