العدد 5433
الأربعاء 30 أغسطس 2023
banner
فيرجسون.. رؤية مؤرخ لقيادة العالم
الأربعاء 30 أغسطس 2023

يذهب المؤرخون من شيشرون إلى شبنجلر، مرورا بهوارد زين، وصولا إلى نايجل هاملتون، إلى أن التاريخ في غالبه هرمي، فهو عن الأباطرة والرؤساء، ورؤساء الوزارات وجنرالات الميدان، ويعني هذا أنه تاريخ عن الدول والجيوش والمؤسسات، عن الأوامر المملاة من أعلى، وحتى التاريخ من أسفل غالبا عن النقابات والأحزاب العمالية، ويكتب التاريخ هكذا لأن المؤسسات الهرمية هي التي تنشئ الأرشيفات التي يعتمد عليها المؤرخون.. هل هناك حلقة ضائعة في هذا السياق؟
حكما هناك شق ضائع يتعلق بالشبكات الاجتماعية غير الرسمية التي لم توثق بشكل جيد، والتي هي مصادر السلطة الحقيقية ومحركات التغيير. أحد أهم الذين شاغبوا العقل الإنساني في الأعوام الأخيرة بحثا عن الفعلة الحقيقيين الذين يديرون شؤون الكون من حولنا، يأتي المؤرخ الاسكتلندي الأصل الأميركي الجنسية "نيل فيرجسون"، المهموم والمحموم بقصة الإنسان مع الحضارة، وبصورة علاقات الأمم والشعوب بالأنظمة ما ظهر منها وما بطن.
هل يتجاوز فيرجسون الحقيقة برؤاه المثيرة أحيانا والمزعجة تارة أخرى، أم أن ما يتوافر له من أوراق كمؤرخ تجعله قادرا على استشراف ما لا نراه في يومنا الاعتيادي المشحون بمشاغبات الحياة، وحيث الغبار يكاد يداري أو يواري الحقائق الكامنة تحت جلد الإنسانية، من أزمنة البشر الأولى وحتى الساعة؟ الشاهد أن الكثيرين يعتقدون وحتى الساعة أن مسألة الشبكات، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، اقتصادية أو أمنية، إنما جادت بها عقود القرن العشرين وليس أكثر من ذلك، غير أن فيرجسون وعبر صفحات مؤلفه الأحدث "الشبكات والبروج"، التي تتجاوز الستمئة صفحة، يكشف لنا عما هو غير ذلك، إنه يجادل بأن الشبكات كانت معنا دوما، بدءا من بنية الدماغ إلى السلسلة الغذائية، ومن شجرة العائلة إلى البنائين الأحرار أو الماسونيين، فعلى مر التاريخ بينما ادعت الأنظمة الهرمية الساكنة في الأبراج العالية أنها تحكمنا، كانت السلطة الحقيقية كامنة في الأسفل، في الشبكات، في ساحة البلدة، ولأن الشبكات تميل إلى الابتكار والتجديد، فمن خلالها تنتشر الأفكار بطريقة فيروسية معدية، وما ينغمس منظرو المؤامرة في تخيله عن هذه الشبكات لا يعني أنها غير حقيقية. إلى أي مدى يمكن أن نصدق فيرجسون أو نشكك في حديثه؟
عادة ما ينقسم عالمنا إلى معسكرين، جماعة اللون الأبيض، في مقابل مؤيدي أو محبي اللون الأسود، وهذا تقسيم مانوي لا يمكن قبوله في القرن الحادي والعشرين. 
في الإطار عينه لا يمكن القبول بفكر "صموئيل هنتنجتون" حيث العالم مقسم تقسيما حضاريا ثقافيا دينيا مذهبيا، ما بين الشرق والغرب، فهذا أمر لا يستقيم.
في زمن العولمة لم يصبح هناك شرق بمعناه الواسع ولا غرب بمؤاده المطلق، إنما تداخل الجميع عبر كرة أرضية يمكن بوسائل الانتقال الحديثة أن تجعل الجميع في سياق وإطار واحد صباح ومساء كل يوم.
لقد وصل الشقاق والفراق اليوم حول من يحكم العالم إلى تعميق هوة الخلاف في الغرب حول تطور المشهد الليبرالي الرأسمالي، لاسيما توجه ما يعرف بالنيوليبرالية.
والثابت أنه ما بين الخوف من المؤامرة وبعض من الحقيقة التي لا ينكرها فيرجسون توجد الحقيقة التي يصفها المثل اللاتيني بأنها دائما في المنتصف. 
هناك من يذهب إلى أن العالم لاسيما على الصعيد الاقتصادي تقوده بعض من تلك الشبكات، والتي يحاجج بأخبارها فيرجسون من عينة جماعة الروتشيلديين أو أصحاب الدرع الأحمر الذين راكموا الثروات في أوروبا في القرون الوسطى، بل إن بعض الأصوات تذهب إلى أن تلك الجماعة عينها هي من رشح عنها مؤتمر "بيلدربيرغ"، والذي يعد ملتقى لقادة العالم من السياسيين والاقتصاديين، فضلا عن رجالات الاستخبارات، وكأني به مجلس إدارة العالم وفي هذا شيء من الحقيقة ما من شك وبدون إنكار أو مراوغة.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية