العدد 5412
الأربعاء 09 أغسطس 2023
banner
عن اللغة العربية وتحديات العولمة
الأربعاء 09 أغسطس 2023

من بين القضايا المهمة التي باتت تمثل قلقا واضحا لدى المهتمين بالفكر العربي، ومستقبل الثقافة الناطقة بلغة الضاد في عالمنا المعاصر، تأتي قضية اللغة العربية ومآلاتها في زمن العولمة، ولعل ما يزعج الكثير من المثقفين العرب، حالة الانثقاف التي تظهر في الأفق لدى الأجيال الشابة، سواء داخل الأوطان العربية، أو تلك المهاجرة إلى الغرب بنوع خاص.
ربما يجد المرء عذرا بشكل أو بآخر للذين ولدوا ونشأوا في أوروبا وأميركا، حال ضعف اهتماماتهم بلغتنا الجميلة، لكن ما لا يمكن للمرء أن يفهمه عقلا أو عدلا، موصول بأجيال تحيا بين ظهرانينا، وتلوي ألسنتها بلغات أجنبية. تبقى اللغة عند علماء النفس الرابط الأقوى بين أعضاء المجتمع الواحد، لا سيما أنها رمز لحياتهم المشتركة، حيث تسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية، وتنمي أسس الروابط الإنسانية، ولهذا يجزم علماء الاجتماع بأن اللغة - أية لغة - الرابط التاريخي القوي والمتين عبر القرون بين الأجيال المختلفة. والشاهد أن اللغة العربية تتمايز عن غيرها من لغات العالم بأنها لغة متجاوزة للأعراق والأقوام، للحدود والسدود، إذ إنها تمثل لغة القرآن الكريم، ما يعني أنها وإن كانت لغة نحو ثلاثمئة مليون عربي من جهة، إلا أنها في واقع الحال تمثل لغة المسلمين الإيمانية والذين يعدون زهاء مليار ونصف المليار مسلم حول العالم.
هل باتت اللغة العربية في خطر، وهل تيار العولمة الجامح والجانح في ذات الوقت، يمكنه عند لحظة بعينها أن يمثل تهديدا على حال ومآل اللغة العربية، لاسيما جراء التنافح والتلاقح الثقافي مع لغات العالم الأجنبية من جهة، والانفتاح اللساني إن جاز التعبير على لغات أعجمية أخرى غير العربية؟ ربما يتحتم علينا بداية الإشارة إلى أن تلك المخاوف غير موصولة باللغة العربية فحسب، بل إنها مخاوف مشروعة عند أصحاب اللغات الناجزة والفاعلة لدى كثير من الشعوب، والتي تخشى من أن تكون عملية انهيار الحدود الثقافية، وجريان أنهر الانثقاف الأممي بينها، ستأخذ اللغة الوطنية والمحلية معها، ما يفقد الأمة أحد أعمدة خيمتها الأخيرة والمهمة في ذات الوقت.
ما يطرحه بعض العرب من مخاوف هذه الأيام بشأن اللغة العربية، سبق وطرحه بالفعل الشعب الفرنسي منذ بضعة أعوام، وذلك حين ثار جدل كبير، ودار نقاش واسع بين علماء الاجتماع ورجالات السياسة والأدب، وكل فاعليات الحياة العامة، حول دخول بعض الكلمات الأجنبية، مثل عطلة نهاية الأسبوع "ويك أند"، من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية، ويومها طالب الفرنسيون بضرورة ابتكار مصطلحات فرنسية وتأصيلها في التربة الفرنسية، وحتى لا يصحو الشعب الفرنسي ذات نهار ليجد لغته قد سرقت، ومعها التراث الفرنسي الإنساني لاسيما تراث عصر النهضة. 
هل تعلم اللغات الأجنبية ضد من "الاستمساك" باللغة العربية ورعايتها وتسليمها قلبا وروحا، نصا وفصلا، للأجيال القادمة؟
الشاهد أن تعلم اللغات الأجنبية ليس أمرا مبتكرا، ولا بدعة جديدة في حياة العرب والمسلمين، ذلك شأن عرفته الحضارة العربية منذ صدر الإسلام والذي أوصى بتعلم لغات الأجنبي المغاير، لاتقاء المكر والشر. 
يمكن للعالم العربي أن يجد طرائق متباينة لتأصيل وتجذير اللغة العربية عبر الأجيال الجديدة والوليدة، بدءا من المدارس والمؤسسات التربوية، مرورا بوسائل الإعلام المختلفة، خصوصا التلفزة والسينما، وصولا إلى وسائط التواصل الاجتماعي المحدثة التي تأتي بالعجائب.
الخلاصة السنية في أمر اللغة العربية، وكل لغة، هي أنها تراث إنساني موصول وغير مفصول بالأمس واليوم وغدا. 

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .